د. عدنان منصور*
أن تقوم دولة ما، بوساطة لفضّ نزاع او إنهاء حالة حرب بين دول، فهذا أمر جيد وإيجابي، لا سيما إذا كان الوسيط يتمتع بصدقية وحيادية وموضوعية، وأخلاقية ذات أبعاد إنسانية. لكن ان تطرح دولة نفسها وسيطاً، وهي منخرطة في حرب وطرف مباشر أو غير مباشر فيها، فهذا ما يعرّي وساطتها ويجعلها منحازة لجهة على حساب أخرى.
الوساطة المنحازة، الفاقدة للصدقية والثقة تنطبق على واقع حال الولايات المتحدة ورئيسها جو بايدن، الذي آثر أن يقدّم نفسه منذ بداية الحرب على غزة أنه صهيوني، وداعم لـ «إسرائيل» دون تحفظ، في الوقت الذي لا يتوقف فيه بايدن عن الإعراب عن «قلقه» أمام العالم، و»حرصه» الشديد على الأمن والاستقرار، والسلام في المنطقة، والعمل على إنهاء الحرب في غزة.
الولايات المتحدة منذ اليوم الأول للحرب، تعمّد رئيسها «الصهيوني» – كما وصف نفسه – الوقوف الى جانب «إسرائيل»، وهو يغضّ النظر عن المجازر والإبادة الجماعية الممنهجة، وسياسة الحصار والتجويع والتهجير التي يرتكبها جيش الاحتلال «الإسرائيلي» ضدّ المدنيين في قطاع غزة.
أيّ وسيط هو الوسيط الأميركي في هذا المجال؟! في القانون والعرف الدولي، على الوسيط أن تتوفر فيه شروط الوساطة، على ان يكون نزيهاً، شريفاً، صادقاً، شفافاً، شجاعاً، حيادياً، وأن لا يفعل بما يرضي أهدافه الخفية الخبيثة، ويقيس الأمور بمعيارين، وأن يكون ذا سمعة طيبة، ولديه سلوك سياسي أخلاقي رفيع. فهل صفات الوسيط هذه تنطبق على الولايات المتحدة وهي تقوم بوساطتها بغية إنهاء الحرب على غزة؟! وأي معيار تعتمده أميركا وهي التي عانت من حروبها الشعوب المقهورة، التي ذاقت من عنجهيتها، وتسلطها، واستبدادها الأمرّين. وما شعب فلسطين إلا واحد من الشعوب الحرة الذي عانى ويعاني من سياسة الظلم، والقهر، والعنصرية الأميركية والإسرائيلية بحقه!
على مدى أربعة أشهر من العدوان الإسرائيلي، أظهر الرئيس الأميركي جو بايدن حرصه على الاستقرار والسلام وهو الذي بعد أيام من العدوان الإسرائيلي، طلب من مجلس النواب الأميركي تقديم مساعدات عاجلة لـ «إسرائيل»، حيث لبّى المجلس طلبه يوم 2 تشرين الثاني 2023 ووافق على مشروع قانون يقضي بتقديم مساعدات لها، بقيمة 14.3 مليار دولار، وهي مساعدات اعتبرها رئيس مجلس النواب مايك جونسون، مساعدات تكميليّة غايتها «تزويد «إسرائيل» بأنظمة أسلحة متطوّرة، ونظام القبة الحديديّة للدفاع الصاروخي… وأنّ هذه المساعدات ضرورية ومهمة للغاية حيث تدافع «إسرائيل» عن حقها في الوجود!».
الدعم العسكري الأميركي لدولة العدوان متواصل، وهذا ما كشفت عنه صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، عندما ذكرت مؤخراً انه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أرسلت الولايات المتحدة لـ «إسرائيل» 230 طائرة شحن، و20 سفينة محملة بالآليات والمركبات والمعدات العسكرية والأسلحة المختلفة.
في الرابع من شباط/ فبراير الحالي، كشف النقاب في مجلس النواب الأميركي عن تشريع يتضمّن تقديم مساعدات عسكرية جديدة لـ «إسرائيل» بقيمة 17.6 مليار دولار في إطار حربها ضدّ حماس.
مع الدعم الأميركي العسكري لـ «إسرائيل»، والانحياز السافر الى جانبها، لم تتأخر واشنطن في تقديم الدعم الاستخباري واللوجستي، والسياسي، والدبلوماسي، والإعلامي لها، والدفاع عن جرائمها التي برّرها بايدن ووضعها في خانة «الدفاع عن النفس»!
نتنياهو قرّر الذهاب حتى النهاية في حربه، واضعاً نصب عينيه إزالة حماس من غزة والقضاء نهائياً عليها. ولن يكتفي بذلك بل هو مصمّم على تفريغ غزة من سكانها مهما بلغت جرائمه، طالما أنه يستند الى دعم وتغطية مطلقة من الإمبراطورية المستبدة، وإنْ أظهرت هذه الأخيرة مواقف معسولة خبيثة، تصبّ في خانة الاستهلاك، ولا تكبح جماح مجرم الحرب في تل أبيب.
لا مجال أمام نتنياهو للتراجع، او موافقته على مطالب المقاومة الفلسطينية ووقف إطلاق نار دائم، والانسحاب من القطاع، لأنّ هذا إنْ حصل يشكل هزيمة منكرة له ولجيش الاحتلال، ويؤدّي الى خلخلة الكيان من الداخل المتصدّع أصلاً. كما انّ أميركا تريد حلاً على الطريقة الإسرائيلية طالما انّ الأهداف المشتركة بين الطرفين واحدة، لجهة التخلص من المقاومة، وطيّ القضية الفلسطينية، والسير قدماً في تطبيع دول المنطقة مع الكيان، وتمهيد الطريق لها، وتحضيرها مجدّداً للدخول في بيت الطاعة الأميركي – «الإسرائيلي:، وتغيير خريطة دول منطقة غربي آسيا.
نتنياهو يرى في الاستمرار في الحرب المدمرّة، خشبة الخلاص له، للخروج من المأزق، ومن الملاحقة القضائيّة التي تنتظره بعد انتهاء الحرب.
نتنياهو بمغامرته وجنونه، وبدعم واشنطن له، يماطل، ويبتز، ويستشرس. هو مصمّم على رفض مطالب المقاومة، ويريد الإجهاز عليها، والاستمرار في حرب الإبادة الجماعية، وتوسيعها إلى رفح، المتنفس الوحيد الباقي للقطاع، بغية خنقه،
ومن ثم إكراه الفلسطينيين على النزوح قسراً الى خارج القطاع حيث سيناء تبقى الخيار الوحيد لهم.
موقف مصر اليوم بالغ الأهمية، وهو في الميزان، لأنّ رفضها وتصدّيها لنزوح الفلسطينيين إليها قسراً أو طوعاً، يحبط المشروع «الإسرائيلي» – الأميركي في الصميم، ويصون مجدّداً قضية فلسطين، ويحمي شعبها من الشتات والتهجير. مصر بوقفتها الشجاعة، ستستعيد مجدّداً دورها الطليعي، ومكانتها العربية، ووهجها الساطع في أمّتها، حيث ستجد شعوب الأمة تصطف إلى جانبها وتدعمها…
إزاء تمادي العدوان الإسرائيلي، وعربدة مجرم الحرب، لم يعد من خيار أمام الفلسطينيين وجبهة المقاومة في المنطقة إلا خيار واحد، وهو الاستمرار في مقارعة دولة الاحتلال، إذا ما ارادت أن تحمي وتصون وجود شعوبها وأرضها ومستقبلها.
إنّ المنتصر في هذه الحرب، هو الأقوى إيماناً، وصموداً، وتضحية، وتجذراً. فلا مساومة على الجوهر وعلى الوجود مع الكيان العنصري المؤقت.
إنها معركة حياة ومصير، ووجود.
لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وفي أصعب الأوقات والظروف، ومن غزة بالذات، يسطر شعب فلسطين بدماء شهدائه، أعظم ملحمة لم يشهد العالم مثيلاً لها، ملحمة تليق به وبكرامة أمته وعزتها، التي خذلها الكثيرون من المرتدّين عنها.
إنها حرب صمود وإرادات، وعضّ على الأصابع بين مقاومة وطنية مستمرة، ودولة احتلال مؤقتة، حيث المنتصر فيها صاحب الصمود والإرادة الأقوى. وهل هناك إرادة أقوى من إرادة الشعب الفلسطيني الذي أذلّ جيش العدوان الإسرائيلي في ميدان القتال، ومرّغ أنفه في تراب غزة وهو المدجّج بأحدث أنواع أسلحة الدمار الفتاكة في العالم…!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق
2024-02-10 | عدد القراءات 91