نقاط على الخروف 19/32055

أوروبا وآسيا وأفريقيا بين روسيا وأميركا والصين

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

- تغير العالم كثيرا منذ نهاية الحرب الباردة، ولعل أهم ما تغير هو أن أميركا التي كانت منذ الحرب العالمية الثانية رمزا لثلاثة عناصر جاذبة، التفوق الاقتصادي والتفوق العسكري والتفوق الأخلاقي قد فقدت جاذبيتها وباتت دولة هرمة لم تعد تملك إلا الصراخ، وعدد من المشاهير في بلدان العالم الثالث المعجبين من الذين تحركهم عداوات أصلها أحقاد ضد مجتمعاتهم، وخيانة لقضاياهم الوطنية، وهوسهم بنماذج صنمية رسمها أصحابها في رؤوسهم، وإذا أخذنا التفوق الأخلاقي الذي منح أميركا فرصة النجاح بتفكيك الاتحاد السوفياتي بقوة التمسك بحقوق القوميات والأديان، ونموذج الحرية الإعلامية والسياسية والشخصية، فإن أميركا ما بعد الحرب العالمية الثالثة تقدم للعالم نموذجا مشوها للحرب على الإرهاب عنوانه ما يتقاذفه قادتها من اتهامات بتشغيل هذا الإرهاب في حروبها، ونموذجا مشوها للديمقراطية يقدمه مثالها السائر في طريق الانحدار والاحتكام للعصبيات والتمييز العنصري ومخاطر الحروب الأهلية، والانتقائية الفاضحة بين إعلان حروب فاشلة لنشر الديمقراطية والتمسك بتحالفات مع انظمة لا مكان فيها للانتخابات، وبالتوازي صار حديثها عن حقوق الإنسان مدعاة للسخرية داخل أمريكا نفسها مع نموذج تحالفها مع كيان الاحتلال والدفاع الأعمى عنه في مواصلة المذبحة المفتوحة بحق الفلسطينيين، فبقي لأميركا قيمة واحدة تدافع عنها هي النموذج الجديد لإنسان القرن الواحد والعشرين، وعنوانها الأبرز المثلية الجنسية، ما يجعلها عاجزة عن التقدم كنموذج جاذب عالميا،دون أن يعني ذلك ادعاء روسيا والصين انهما يملكان نموذجا قابل للتعميم، فالدولتان ترفض ايديولوجية التعميم وتصدير النماذج، وتقولان بالخيار الحرب للأمم والشعوب لاختيار نموذجها الخاص، فتلتقي الصين الشيوعية الكونفوشية مع ايران الاسلامية وروسيا الأرثوذكسية القيصرية.

- مع السقوط الأخلاقي للنموذج الأميركي، وتحوله في كثير من الحالات إلى مثال منفر، صار حساب المصالح وحده يحكم العلاقات معها و الإنضواء في محورها، وبقي نفوذها في أوروبا وآسيا وأفريقيا ثمرة الخوف من قوتها، أو طلب حمايتها، من جهة، أو الرغبة بالاستفادة من قدراتها الإقتصادية والخشية من عقوباتها المصرفية من جهة موازية، لكن ما يشهده العالم خلال العقد الأخير، بعد عقدين من الحروب الأميركية الفاشلة، ومن التراجع في المكانة الاقتصادية، أن العالم يشهد صعود قطب اقتصادي جديد يتقدم على أميركا ويتفوق عليها وتعجز عن مواجهته والحد من صعوده، بل وحتى الاستغناء عنه كشريك اقتصادي أول، وهذا القطب هو الصين، التي سجلت عام 2023 وفقا لأرقام البنك الدولي وحساب الأسعار الجارية، الدولة الأولى في حجم الناتج الوطني مع 30 تريليون دولار مقارنة ب 25 تريليون لأميركا، ونجحت الصين بالحفاظ على تحقيق نمو ثابت من جهة، وتشبيك علاقات تبادل تجاري مع كل العالم ما جعلها الشريك التجاري الأول لكل التكتلات العالمية والدول المنفردة على السواء، وأميركا والاتحاد الأوروبي ضمن هذه المعادلة، وكذلك روسيا والهند والعالمين العربي والإسلامي، وشهد العالم في سياق هذا الصعود تحولات ظهرت في مواقف الحلفاء الأقرب لأميركا من اوروبا كحال ألمانيا وفرنسا الى دول مثل السعودية وتركيا الى اظهار الحرص على تأكيد الوقوف في منتص فالطريق بين أميركا والصين، واقامة العلاقات الاقتصادية والتجارية وفق معيار المصلحة لا التزام بمنطق المعسكرات.

- على الصعيد العسكري شهد العقد الأخير نجاح روسيا بحجز المقعد الأول بلا منازع عالميا في مجال السلاح النووي، بعدما أضيف الى الترسانة الروسية عدد من الأجيال من أنظمة صاروخية فرط صوتية لا يمكن ملاحقتها بالصواريخ الأميركية المضادة، فيما ظهرت أميركا دولة منعدمة الكفاءة في القدرة على خوض الحروب التقليدية، وهي تعلن هزيمتها في أفغانستان، وتتهرب من الحرب في أوكرانيا، وتتفادى المواجهة مع إيران، بالتوازي في العجز عن إظهار القدرة على استخدام بدائل كافية لتعويض عدم الانخراط في هذه الحروب، وفيما تسببت العولمة بخسارة أميركا للروح القتالية بتعميم ثقافة موت القضايا والعقائد وسقوط الهويات والوطنيات، بينما تسببت الخصخصة بتراجع مفهوم الأمن القومي في حساب إنتاج الأسلحة والذخائر وتكوين القوى المقاتلة، حيث صار كل شيء عنوانه الربح وحساب الكلفة بقياس الإستمرارية، وهي اليوم تعاني شحا قاتلا في أنواع من الذخائر لم تقم الشركات بانتاجها بكميات فائضة لأن بناء خطوط إنتاج اضافية يستدعي استثمارات لا تقوم به الا الدول من باب التخطيط الوقائي والأمن الاستراتيجي، واليوم تجد أميركا نفسها وسط حربين لا تستطيع إغلاق أي منهما لا عبر الفوز بهما ولا عبر تسوية تكرس الخسارة، حرب أوكرانيا وحرب غزة، والحربان تختصران الصراع الاستراتيجي بين أميركا وخصومها الاستراتيجيين روسيا والصين وايران، على مساحة القارات الثلاثة آسيا وأوروبا وأفريقيا، وفيما تبدو أميركا مرتبكة يبدو خصومها مرتاحين لعامل الوقت والخيارات المفتوحة.

- الولاية الرئاسية الجديدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما قدمته من نموذج شعبي لولادة قيادة تاريخية، بينما يقابلها تشظي المجتمع الأميركي وخطر دخوله في دوامة الحرب الأهلية، بمعزل عن سرديات الديمقراطية، تقول إن ثمة نموذج صاعد ونموذج يتراجع، وأن العالم سوف يشهد تغييرات استراتيجية في ظل هذا التفاوت بعدما توافرت للتغير أسباب كافية.

 

2024-03-18 | عدد القراءات 134