الأمة تنطبق عليها قوانين الفيزياء لأنها كتلة مليئة بالطاقة .. والطاقة لاتفنى ولاتزول لكنها تتبدل .. والأمم لاتفنى ولاتزول طالما ان فيها طاقة .. ولكنها تتبدل الى ضوء أو حرارة أو حركة .. وهذه التبدلات تحدثها النخب التي تغير طاقة الأمة من طاقة كامنة في كتلة كسولة بليدة الى طاقة من ضوء وحركة وحرارة .. ومايحدث الان هو صراع بين من يريد لهذه الامة ان تبقى بليدة وتقبل بالواقعية السياسية لتبقي الامة مثل كتلة صماء وحجر بلا حرارة ولاحركة ولا ضوء بذريعة أن الغرب هو الاقوى .. وبذريعة أننا ندفع الأثمان الباهظة .. بينما هناك قوة اخرى في الأمة تريد ان تخرج الضوء والنور والحرارة والحركة من هذه الأمة .. لتنضم الى حزمة النجوم والضوء والحضارة ..
ومن هنا فان كان هناك من شيء أباهي به فهو أنني سوري .. ولكن ليس أي سوري .. بل السوري الذي صنع الضوء وأطلق حرارة في الحضارة الانسانية .. فأنا ذلك السوري الذي نهضت الكتابة من أرضه وبذر الحروف في الدنيا كلها … ومن أرضي نهضت جياد بني أمية .. وأنا أنتمي الى هذه الارض التي تزاحمت فيها أضرحة أعظم الأبطال والفلاسفة والشعراء .. وأنا أحس انني أتصل بدمي بذلك الجيل الذي قهر أوروبة يوما وكسر هيبة ملك انكليزي يسمى ريتشارد قلب الاسد .. وكانت دمشق وصلاح الدين حديث اوروبة لعقود وعقدتها حتى اليوم ..
دمشق لم تحصل على مكانتها لأنها كانت عاصمة للرقص والطبل ولا عاصمة للأزياء .. بل لأنها عاصمة الطموحات والفتوحات .. وعاصمة العصيان .. وعاصمة الثوار .. وعاصمة لكل من يريد ان يعلن العصيان والثورة على هذا العالم الذي يريد ان يمر من بلادنا ويسحقنا تحت حوافره .. ولم يقدر احد أن يجرد دمشق من هذه القلادة العظيمة التي علقها لها كل من قرأ التاريخ .. ولأن صنعتنا في دمشق هي تجهيز الهزائم لتزف الى الهزائم .. ومهنتنا التي اشتهرنا بها هي صناعة السيوف الدمشقية .. وليس صناعة الدفوف ولا بناء الأبراج والفنادق ..
أنا لست ذلك السوري الذي سافر مرغما في السفربرلك وأغفى على خدعة خلافة اسلامية اسمها عثمانية لمدة 400 سنة .. ولن اكون أبدا ذلك السوري الضعيف .. أنا سأختار أن أسير في مواكب الفاتحين التي انطلقت من دمشق .. وأن أكون في كتائب صلاح الدين .. وان أمشي مع عبد الرحمن الداخل من دمشق الى الاندلس لأقيم هناك مع نخلتي التي هاجرت معي .. 800 سنة بلا انقطاع ..
وأنا من دمشق التي تحدت الربيع العربي وأذلته .. فالربيع العربي لن ينسى أنه احترق في دمشق .. وأن أسنانه تكسرت وهو يعض على أسوار الشام .. وأن عظام التمساح طحنت في دمشق وصنعنا من جلده حقائب تحفظ فيها أوراق الزمن .. ولن ينسى مذاق الهزيمة التي تجرعها .. وسيورث خوفه من دمشق لكل ربيع يأتي مع رياح الغرب .. فما صنعه صلاح الدين في حطين صنعناه في الربيع العربي الذي دمرناه .
وبعد ذلك يأتي هناك من يقول ان علينا ان نغير صنعتنا ومهنتنا .. لنصبح من رواد الواقعية .. وان ننتقل من سفربرلك بني عثمان الى سفربرلك بني نتياهو وأبناء العم سام وأحفاد ريتشارد قلب الأسد .. لأن صناعة السيوف لم تعد مربحة كما هي صناعة العطور وصناعة ملكات الجمال .. وصناعة الرفاهية وحفلات السيرك .. وبدلا من أن يقول أصحاب هذا الرأي ان مانرى من شهوة اميريكية للدم وهو يقتلنا مرة في العراق ومرة في ليبيا ومرة في سورية ومرة في اليمن واليوم في غزة .. بدل ان يقول ان هذا الاسراف في قتلنا يدل على اننا على صواب وأن خياراتنا صحيحة لأن من يقتلنا اليوم قتلنا بالأمس وسيقتلنا غدا وفي كل يوم .. والفرق هو في التوقيت فقط .. ولكن اليوم يتسلل من بيننا من يريد ان يزين لنا فكرة التطوع للمشي في السفربرلك الامريكي والسير في الواقعية وان نحاكم خيار المقاومة ومشروعها وتصوراتها لأنها خيارات غير واقعية ..
وهؤلاء لايمانعون أن ينصحوا السيد المسيح بالواقعية السياسية وسيحاكمونه لأنه أخطأ عندما تمرد على الهيكل وتجاره .. وكان عليه ان ينحني للعاصفة .. وأن يتحول الى تاجر في الهيكل او أن يصمت .. وهؤلاء الذين يبشروننا بالواقعية السياسية يريدون ان يقولوا ان النبي محمد قد كان عليه ان يكون اكثر واقعية وان لايتمرد على أهل قريش لأنهم أقوى .. ولو كان هؤلاء في صفوف مستشاري خالد بن الوليد لما وقعت معركة اليرموك لأن الواقعية كانت تعني ان روما أكبر من مكة .. ولذلك فان روما لاتقهر .. ولو استمع ابن الوليد لهم لكانت الامبراطورية الرومانية لاتزال في دمشق .. ولما نهضت فيها أمية ولما وصل زمن سيف الدولة الحمداني ولا ظهر المتنبي سيد الكبرياء .. ولكانت بقيت سيرة الزير وعنترة وعبلة هي أعظم ماأنتجناه .. بل ولظهر لنا حمد بن جاسم أل جبر فيلسوفا عظيما وهو يقول كلمته الشهيرة للأمة (اننا نعاج وهم ذئاب) .. في تطبيع مع فكرة من يريد ان يعيش بمشاعر النعاج .. وبواقعية النعاج ..
هناك من يريد ان يقنعنا اننا لانعرف ان المبادئ تتغير وهي سلعة للمقايضة .. وان ماكان مقدسا صار مكانا للتهكم .. كما فعل الاعلام الخليجي الذي سخر من الحلم العربي وسمى أصحابه بالقومجية .. وسخر من شعار لاصوت يعلو فوق صوت المعركة .. لأن اليوم هو زمن رنين الذهب وصوت لعق الاحذية .. وصوت تبويس الأيدي الامريكية .. وصوت التصفيق لمعاهدات السلام ..
هناك من يريد ان يهدم خيار المقاومة بالترويج للواقعية السياسية التي بدأها تيار الكسالى والهزالى والساداتيون وتيار الخليج المحتل الذي يروج لمقولة التطبيع و(تبويس اليد التي تضربك) .. بل ويحرمون عليك أن تدعو عليها بالكسر .. بل ادع الله ان يقويها لأنك تحتاج يدا تقبلها كي تحس بالوجود من مبدأ (أنا أقبل الأيدي والأحذية اذا أنا موجود) ..
الغريب ان البعض يروج لهذه الدعوات في هذه الفترة الأليمة والصعبة .. حيث بلادنا محتله .. وقمحنا محتل .. ونفطنا محتل وليرتنا محتلة .. وكرامتنا تذبحها المذابح في غزة .. لأن هذه الدعوات مثل أي حركة انتهازية تنتظر ان يصيبك الألم لتقايضك بالمسكنات في مقابل ان تسكت وأنت تسمع من يغتصب بلادك خلف الابواب وتسمع صوت فض بكارتها وتطلب منها أن تسكت من باب الواقعية .. فهذه الدعوات فيها انتهازية حقيرة لأنها تبتز الناس ومواجع الناس وألم الناس .. تستعمل ألمنا ووجعنا وشعورنا بالعجز كي تغوينا بالرذيلة .. بل وتحاكمنا لأن خيارنا كان المقاومة ..
منذ يومين رأيت مقابلة على الاخبارية السورية وكنت أسمعها وعيناي جاحظتان .. ظننت للوهلة الاولى أن فيصل القاسم وصل الى دمشق وافتتح فرعا للجزيرة على أرضنا وفي هوائنا .. وبحجة الرأي والرأي الاخر والاتجاه المعاكس صرنا نستمع من قلب دمشق الى كلام غريب لايقال الا في الجزيرة وعلى لسان افيخاي ادرعي .. عن لوم المقاومة على خيارها الذي كلف أهل غزة الكثير .. وعن تعثر النصر .. وعن أثمان النصر .. وبدأ كلام عن الواقعية السياسية وعن الغرب الذي لايقهر !!..
انا أعرف ان الاعلام السوري يشبه اعلام الحج محمد في مسرحية شاهد ماشفش حاجة ولكن لم أعتقد ان فيصل القاسم افتتح فرعا له في اعلامنا .. وأن محطة الجزيرة اقتحمت هواءنا و صار لها سفراء يروجون مقولاتها الخبيثة بحجة الرأي والرأي الاخر .. رغم ان الرأي والرأي الأخر لايعمل به حتى في الغرب .. فالرأي الاخر في الغرب يؤتى به لكي يهان ويحتقر ويسخر منه .. كما يفعل فيصل القاسم الذي يترك الرأي الصهيوني يسرح ويمرح ولايقاطعه بينما ينضم الى حفلة النباح علينا كلما تكلم الوطنيون ويقاطعهم ويسخر منهم .. ويكتفي بالقول للضيوف الذين ترسلهم المخابرات الاسرائيلية ما ردكم على كذا وكذا … وهنا لايتدخل ولايسخر ولايشتم بل يكون الهواء مطلقا للنيل من المقاومة ومحور المقاومة وخيارات المقاومة .. ويدس السموم والملوثات والقيح والزنا .. ويسخر من فكرة الصمود .. لتيئيس الناس ..
السماح بفكرة الرأي والرأي الاخر هو خدعة من الخدع التي انطلت على الناس مثل لعبة الديمقراطية التي هي ألعوبة الأغنياء فهم يشترون الرأي والعقل بالمال والاعلام .. ولوكان سقراط الذي قدم تعريف الديمقراطية يدري ان هذه الديمقراطية فيها مال وفساد وافساد للرأي لاعتذر منا ومزق الديمقراطية لأنها ملوثة بالمال .. ولو كان فولتير يعرف ان الرأي الآخر سيكون سببا في قتل الرأي السديد والرأي الحر بدل ان يتفاعل معه لما قال مقولته الشهيرة انني مستعد لأن أقتل نفسي من اجل ان تقول رأيك .. لأن الرأي الآخر هو تفاعل وتكامل وليس خيانة .. ولأن الرأي الاخر ليس مثل قضية بيد شايلوك تاجر البندقية يصبح له مطلق الحرية ان يقطع اللحم البشري بالسكين طالما انه رأي آخر في تطبيق العدالة والقانون ..
علينا أن نعلم أن الخلاف في الرأي ليس مبررا لنشر مقولة العدو .. وعلينا أن نتعلم مما فعله الساداتيون الذين نقلوا مصر من مرحلة التوهج وصنع الضوء والحرارة الى مرحلة التكلس والجمود وبوس الأيدي والعقلانية السياسية .. بحجة الواقعية الساداتية التي كانت تبكي على مادفعه المصريون من تضحيات في مواجهة الغرب .. فاذا بالسادات يقول للمصريين في هلع وذعر (الله هو احنا ح نحارب أمريكا؟؟) .. فيما كان الخميني على الجانب الاخر في ايران في نفس العام يقول للعالم: أنا سأحارب أمريكا .. واليوم هاهي ايران تتحول الى طاقة هائلة وضوء اقليمي ودولي وتصل سفنها الى فنزويلا والصين والفضاء .. بينما مصر الواقعية لاتقدر ان تمر من بوابة معبر رفح ولاتملك سلطة على قناتها وعلى سيناء .. ولاتقدر ان تشرب قطرة ماء بعد اليوم من دون اذن اثيوبيا واميريكا .. واذا شربت فانها لاتشرب الا بعد ان تتعلم كيف تقبل الايدي وتتسول ..
ويذكرني الجدال بين ان نقاوم أو لانقاوم بموقف شهير للفيلسوف الاغريقي ارستيبوس القوريني الذي كان يمجد المتعة واللذة الحسية التي هي برأيه غاية السعادة .. وكان يرفض معاناة الجسد لأن الألم هو الشر والتعاسة .. وكان صاحب فلسفة في رفض المبادئ والقيم اذا كانت تمس نصيبنا من السعادة والرفاهية .. ولذلك فانه كان صديق الملوك والقصور ويتمتع بطيبات البذخ .. وعندما قام بزيارة الى أحد الملوك اليونانيين بينما كان يسير في احد الطرقات في المدينة التقى بالفيلسوف الاغريقي الشهير ديوجين الكلبي الذي كان زاهدا جدا في الدنيا ويمجد القيم العليا .. وكان ديوجين يعيش في برميل امعانا منه في الزهد .. وكان يعرف عنه انه يسير في الطريق يحمل سراجا في وضح النهار ويقول (انني أبحث عن أنسان .. اريد ان ارى انسانا) .. وصادف ان مر ارستيبوس القوريني -الذي يرتدي الثياب الفاخرة ويحيط به موكبه – بديوجين .. فرأى أرستيبوس ان ديوجين يأكل العدس والخبز الجاف بجانب برميله .. وكان يسمع بحكمة ديوجين فقال لديوجين متهكما: أنت حكيم ياديوجين بلا شك .. ولكن حكمتك لم تنفعك .. ولو أنك تعلمت منافقة الملوك وتملقهم لما اضطررت الى أكل العدس .. فنظر اليه ديوجين الكلبي في احتقار وقال له: ولو انك تعلمت اكل العدس .. لما اضطررت الى منافقة الملوك والتذلل لهم ..
هناك من يريد ان يكون منافقا للأمم .. ولشيوخ النفط .. ومنافقا للغرب .. وان ينافق الغرب .. وأن يسير من سفربرلك الى سفر برلك .. لايهم من يسوقه فيه عثمانيا كان ام امريكيا .. ويريد ان يكون ساداتي المزاج يترك مفاتيح القارات ويسلمها لامريكا ولايملك حتى مفتاح بيته ولايملك مفتاحا لمعبر صغير يدخل منه .. وهو يمجد متعة جسده ورفاهيته واذلال روحه وشرفه ويسميها واقعية .. ولايمانع أن يكون حجرا بلا حول ولاقوة وكتلة صماء ..
ولكن بالمقابل هناك من يريد ان يأكل العدس والخبز الجاف على ان ينافق ملكا او شيخا أو اميرا او قوة عظمى في الدنيا .. هناك من يريد ان يتابع ثورة المسيح على تجار الهيكل الذين هم اليوم في اميريكا واوروبة .. وهناك من يريدون ان يحملوا شعار النبي محمد (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك يقيني فلن أتركه) .. هناك من يريد ان يعيش ضوءا لا حجرا .. وان يصنع حرارة لوجوده .. وهذا مانسميه المقاومة .. والعصيان .. والرفض .. والكرامة والكبرياء .. واطلاق طاقة الأمة ..
هذا هو الفرق بيننا وبين مدرسة الجزيرة وفيصل القاسم ومدرسة انور السادات ومدرسة التطبيع .. وهذا هو الفرق بين من يريد ان يكون أرستيبوس الواقعي المتملق والمنافق والذليل .. وبين من يريد ان يعيش بقلب ديوجين الكلبي وروحه ..
ان من يريد ان يبوس الايدي وينافق الملوك والقوى الكبرى فهذا ليس شأنه اذا كان يعيش على هذه الارض التي نزرع فيها القمح والضوء .. والحرارة .. والكبرياء وسنأكل فيها العدس والخبز الجاف ولو سكنا في البراميل .. ولكن لن نعلم ابناءنا الواقعية ونفاق احد .. أما هو فاذا أراد ان يعيش متملقا للقوة فليرحل الى حيث يتمتع بتقبيل الايدي والنفاق .. وينسى طعم العدس .. وليأكل الكاتوه والهامبرحر والماكدونالد بنكهة الذل .. ويطل على العالم من برج خليفة او أبراج نيويورك .. فهؤلاء مهما طال الزمن سيتم رميهم من الشواهق والابراج عندما تنتهي مهمتهم وتشبع ايادي الملوك من قبلهم وتبويسهم لها .. وتمل آذان الملوك من نفاقهم .. وعندها لن ينفعهم حتى أكل العدس لأنه لن يسمح لهم حتى بأكل العدس والخبز الجاف .. فالملوك تحترم أيضا أصوات الثوار ..
بوركت المقاومة .. وبورك الصمود .. وبورك كل من لديه كرامة ويرفض الا ان يكون حرا مهما كان ثمن الحرية .. نحن سنستمر في صنع الضوء وخلق الطاقة والحرارة في الأمة .. لأن صنعتنا هي اطلاق الضوء والطاقة .. وصنع السيوف .. واستخدام السيوف ..
أعتذر من ديوجين الكلبي الذي ظهر على شاشتنا وكان يسمع تحقيرا من ارستيوبس الذي يشنع عليه أنه يأكل العدس فيما موائد الدنيا مفتوحة له مقابل كلمة واحدة صغيرة هي: بع وطنك .. بع شرفك .. بع دينك .. بع أبناءك .. وبايع امريكا واسرائيل ..
2024-03-24 | عدد القراءات 304