الحرب الأهلية : هل لا زالت احتمالا لبنانيا؟
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- يطوي لبنان العام القادم نصف قرن على اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، الحرب التي أكلت أعمار أجيال لبنانية عديدة بينما التهمت أرواح عشرات الآلاف منهم، ويعرف من عايشوها أن إرهاصاتها بدأت قبل ذلك بسنوات، وأنها كانت خيارا حاضرا في كل لحظة على الأقل منذ العام 1969، واول أزمة لبنانية فلسطينية، وحضور الانقسام اللبناني حول الوجود والدور الفلسطيني والتموضع حوله على أساس طائفي، واليوم مع خطابات التوتر الطائفي والانقسام و التشكيك بجدوى العيش المشترك، التي تتجاوز سقوف ما كان عليه الخطاب عشية الحرب الأهلية، يخشى اللبنانيون أن يكونوا عشية جولة جديدة من حروبهم، التي سموها مرة حروب الآخرين على أرضنا، ومرة مؤامرات التقسيم والتوطين، وتهربوا من تحمل مسؤولياتهم في إشعالها وفي ارتكابها وتوحشها، وقرروا طي صفحتها على طريقة عفا الله عما مضى دون مصالحة عميقة ومصارحة شفافة ودون أخذ العبر والدروس، ودون كشف مصائر المفقودين ومساءلة ولو أخلاقية وضميرية للمرتكبين، ليطل السؤال الصعب والمقلق دون أن تكون لدينا خبرة كافية حول كيف نتفادى الكأس مرة مجددا، وكأن الحرب التي عشناها لخمسة عشر سنة وعايشتنا لجيلين متلاحقين و أكثر، قد مرت علينا بخبرة سنة واحدة مكررة عدة مرات، فلم نتعلم منها شيئا.
- إذا كانت مؤشرات الحرب الأهلية ترتبط بمنسوب الخطاب الطائفي، واشهار الرغبة بالانفصال على أساس طائفي، وتعدد طبقات الاستعصاء السياسي بين المكونات الطائفية عبر تمثيلها السياسي الواسع، فان لبنان بالمقارنة مع ما كان عليه الحال عشية الحرب الأهلية عام 1975 في حال أشد تجسيدا لمناخ الحرب الأهلية، لكن الحرب لم تقع، بينما وقعت يومها في ظل خطاب طائفي خجول يستحي أصحابه من المجاهرة فيه، ويسعون للبحث عن شعار وطني يلتحفون به ويغطي تطلعاتهم الطائفية، وبينما الجميع يتحدث عن التمسك بالوحدة الوطنية والعيش المشترك، و الاستعصاء السياسي أقل حدة وعلى مستويات أقل عددا، ولكن ما كادت الحرب تشتعل حتى خرج كل ذلك التوتر الى العلن وصارت طروحات التقسيم في التداول، والخيارات المتعاكسة ظاهرة، والعصبية الطائفية حاكمة.
- البحث عن شروط الحرب خارج درجة الانقسام والاستقطاب وطائفية الخطاب ونسبة المجاهرة باستحالة العيش الواحد، يأخذنا الى منطقة فكرية في التحليل والاستقراء، سوف يعتبرها البعض اساءة للقوى التي شاركت في الحرب، وهي ليست كذلك، ففي المرتين اللتين ذهب خلالهما اللبنانيون الى الحرب الأهلية، كان العامل الإقليمي والدولي هو الأساس، وكان يمكن للأزمات الداخلية أن تجد طريقها نحو التعبير والحضور في غير طريق الحرب، لولا هذا العامل الخارجي، الذي وجد في هشاشة التكوين السياسي والاجتماعي اللبناني أرضا خصبة جاهزة للاشتعال، ففي المرتين كان إشعال الحريق اللبناني مدخلا لتغيير توازنات إقليمية تتصل بالطبخات الكبرى، عام 1958 كان العنوان الاشتباك الأميركي مع صعود جمال عبد الناصر ومشروع الوحدة بين مصر وسورية في أوج الحضور، فكان حلف بغداد مشروع انقضاض غربي عربي على الناصرية بصفتها نفوذ مصر عبد الناصر خارج مصر، وفي عام 1975 كانت النهاية الملتبسة لحرب 1973 وما تلاها من استعدادات وتحضيرات لاتفاقيات كامب ديفيد يستدعي إشغال المقاومة الفلسطينية وارباكها، واشغال سورية وارباكها، وإذا تيسر دفعهما ليشغل ويربك كل منهما الآخر، وكان لبنان بالجغرافيا والتكوين الطائفي ساحة مثالية لذلك، وفي الجولات اللاحقة قبل وبعد الاجتياح الإسرائيلي، كان الاجتياح هو الحدث الاقليمي الدولي الكبير الذي حل مكان كامب ديفيد، واحتاج لبنان ساحة مشتعلة.
- يعبر لبنان ذكرى الحرب والوضع الدولي قد تغير، والوضع الإقليمي يتغير، والتغيير في كليهما لصالح تراجع المركز الأميركي الغربي عن قيادة العالم، وتراجع مكانة "إسرائيل" كقوة مهيمنة في الإقليم، وفي لبنان مقاومة قوية ومقتدرة تشكل تحديا للمشروع الأميركي الاسرائيلي، لكن ليس هناك مشروع شيعي صاعد في لبنان، والشيعة اللبنانيون بقياداتهم ونخبهم متمسكون بلبنان التسويات ولبنان التعدد والتنوع، ويدركون ان كثرتهم العددية وقوتهم العسكرية لا تعني انهم قوة صاعدة، بينما لا تزال الجامعات والمصارف والمصانهع والوكالات التجارية والنقابات المهنية في ارجحيات طائفية أخرى، ولذلك فان الحرب الأهلية ليست الوصفة المناسبة لمواجهة هذه المقاومة، التي بدا للبعض ان الحرب المذهبية مشروعا جديا لمواجهتها، لكنها سرعان ما سقطت كوصفة بعدما خيضت نماذج تطبيقية فاشلة لها في 5 أيار 2008، وتراجعت مناخات مشروع الفتن المذهبية محليا وإقليميا بعدها وصولا الى الاتفاق الإيراني السعودي الصيني الذي أطفأ محركاته، وانتهاء بطوفان الأقصى الذي اطفأ نيرانه ووضع السنة والشيعة في خندق مشاعر واحدة، تحت عنوان نصرة فلسطين، وإذا كانت موازين القوى لا تسمح بالتفكير بإشعال الحرب الأهلية بوجه المقاومة في ظروف يغيب معها التدخل الخارجي المباشر، فإن إشعال حرب أهلية في ظهر المقاومة في ظل حرب خارجية عليها فشل كرهان خلال ظروف أشد مؤاتاة من أي لحظة تبعته او قد تأتي لاحقا، عندما جاءت حرب تموز 2006 في ظروف غليان داخلي و توتر طائفي ومذهبي، وكان سقف الاستثمار الداخلي فيها هو الاصطفاف تحت شعارات الحرب الإسرائيلية بالدعوة لنزع سلاح المقاومة، دون المخاطرة بخوض الحرب من ضمنها وتحت سقفها، وكل ما جاء بعد ذلك التاريخ، وصولا الى اليوم يقول ان الظروف السياسية والنفسية والمناخات الداخلية رغم كل ما فيها من انقسامات تبقى أفضل من ظروف 2006.
- يجب تسجيل وجود أربعة عوامل داخلية ساعدت في إبعاد خيار الحرب عن المشهد اللبناني، أولها هو حجم اقتدار المقاومة واستعدادها لتحمل الكثير تفاديا للانخراط في الحرب الأهلية، والثاني هو أن المقاومة رغم قوتها واقتدارها لم تربط يوما بين هذه القوة ومشروع مكاسب طائفية، أو تعديل التوازنات بين الطوائف في الحكم، ورغم حجم انتشار مقولة ان حزب الله يسيطر على الدولة ومؤسساتها، فإن خصومه لا يستطيعون إنكار، أن ذلك من باب الدعاية السياسية، فالجيش الذي يقترح خصوم حزب الله قائده رئيسا للجمهورية، لا يستقيم الجمع بين اعتباره امتدادا لحزب الله واعتبار قائده مشروعا رئاسيا يقيم التوازن مع الحزب وقوته، والقضاء كسلطة أظهر في محطات مفصلية تماسكه على خيارات مناوئة لما كان يدعو له حزب الله، خصوصا في مثال مقاربة انفجار مرفأ بيروت، والسلطة المالية التي يشكل محورها مصرف لبنان، تربع على عرش الحاكمية فيه شخص جرى تقديمه على الدوام بصفته رجل الغرب الأول، وهدد الأميركيون مرارا بخراب مالي اذا مست صلاحياته أو جرت محاولات لتنحيته، ورغم الشائعات عن تبني حزب الله مشروع استبدال المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بالمثالثة بين السنة والشيعة والمسيحيين، فالكل يعلم ان المشروع مجرد خرافة لا أساس لها، ورغم الخلاف بين التيار الوطني الحر وحزب الله مؤخرا، فان أحدا لايستطيع انكار ان حزب الله كان الطرف المسلم الوحيد الذي تجرأ على المخاطرة بالسير بفكرة الرئيس المسيحي القوي، الذي يملك اوسع تمثيل شعبي ونيابي، وانه وضع ثقله لاقرار قانون انتخابات يلبي طروحاته وصحة التمثيل الطائفي التي يسعى اليها مرتين متتاليتين.
- العامل الثالث يعود لاتفاق الطائف الذي عطل فرص الحرب الأهلية بذكاء لم يغب عن فلسفته، عبر إبقاء النظام الطائفي لكن بدون طائفة قائدة، بحيث لا توجد طائفة مستعدة لخوض الحرب دفاعا عن امتيازاتها في النظام، كما لا توجد طائفة تعتبر النظام مصدر ظلم وغبن يلحقان بها و بحقوقها قياسا بسائر الطوائف بما يستحق المغامرة بالحرب، أما العامل الرابع فهو أنه بعد الطائف صار للبنان جيش غير طائفي، وفيه نخبة من الضباط الذين استوعبوا درس الحرب الأهلية، ومخاطر انخراط الجيش في صراعات بعنوان طائفي تنتهي بانشقاقات وانقسامات تنهي الجيش كمؤسسة، وهذا الجيش بخلاف الحال عشية الحرب قبل خمسين سنة، يلقى إجماعا شعبيا على توليه ضمان وحدة البلاد وقمع أي محاولة لتخريب الأمن فيها.
- الذين قرأوا تاريخ لبنان السياسي يعرفون أن أزمات لبنان ليست محصورة بمراحل الحروب الأهلية، ويعرفون أن ازمة 1952 ربما كانت أشد قوة من أزمة 1958 وازمة 1975، لكنها انتهت بثورة بيضاء تلاقى فيها مسلمون ومسيحيون بوجه التمديد للرئيس بشارة الخوري، لأن المظلة الاقليمية والدولية التي مهدت للحرب وأخذت اللبنانيين إليها عامي 1958 و 1975 لم تكن متوافرة.
- ختاما يبقى الحاجة للاعتراف ان تعاملنا مع التشكيلات الطائفية سياسيا كحالة مرضية كان مجافاة للحقيقة، بالرغم من أن التنظيم الطائفي للدولة هو الحالة الأشد مرضية، لكن مراعاة كون اللبنانيين لم يبلغوا بعد مرحلة النضج الوطني على مستوى الهوية الجامعة، وادراك ان الطوائف لا تزال هي الفاعل السياسي الأول على مستوى الهوية، لا يبرر الذهاب الى هذا الإفراط في تنظيم الدولة على أساس طائفي، ولعل عبقرية اتفاق الطائف قد منحتنا الفرصة لصيغة انتقالية مديدة يكون فيها مجلس نيابي خارج القيد الطائفي ومجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف، وهندسة الصلاحيات بينهما، أول تقليص ضروري لحجم تمدد التنظيم الطائفي داخل جسد الدولة يمكن أن ترافقه عمليات مشابهة مثل المداورة في وظائف الفئة الأولى وسواها مما ورد ذكره في اتفاق الطائف، كمدخل لا غنى عنه للانتقال من الرقص على صفيح ساخن الى سلوك مسار الاستقرار نحو بناء الدولة التي لابد من عبورها في مرحلة التشكل الوطني الهادئ، الذي لا تصنعه إلا تسويات طائفية مديدة، لا تزال ضريبة يجب سدادها لحماية السلم الأهلي والابتعاد عن الأزمات الدورية التي تعيد إشعال العصبيات وترفع منسوب الإنقسام.
2024-04-17 | عدد القراءات 157