نقاط ع الحروف 7/9/2024

لا حرب خاطفة ولا نصر حاسم في القرن 21

نقاط على الحروف

ناصر قنديل

- لم تكن هيلاري كلينتون تعلم عندما قالت أمام منظمة الأيباك، اللوبي الصهيوني الأكبر في أميركا، أن "اسرائيل لم تعد تستطيع التحدث بعد حرب لبنان 2006 وحرب غزة 2008 عن حرب خاطفة وعن نصر حاسم، كما كان حال حروبها السابقة، وربطت ذلك بظهور سلاح الصواريخ كعامل حاسم في الحروب التي تخوضها قوى المقاومة، أنها تستخلص معادلة سوف تكون أبعد بكثير من توصيف حال الكيان الذي كانت تهتم لنصحه بكيفية تجنب الأسوأ، والأسوأ كان في وفق كلمتها تلك في شهر آذار 2010 هو مستقبل قاتم.

- يربط مؤرخو الحروب دائما بين تطور الأسلحة وتغيير استراتيجية الحرب وتكتيكات الحروب وقواعد خوضها، ومثلما اختفى شكل النصر الذي عرفناه في حروب البشرية حتى الحرب العالمية الثانية، التي انتهت باستخدام القنابل النووية على اليابان واستسلامها، عندما كان الدخول إلى عاصمة الدولة المحاربة واستسلام قادتها هو الشكل الوحيد الذي تعرفه عن النصر كما حدث مع ألمانيا، ، واختفت كذلك الحروب العالمية بالصورة الشاملة والممتدة في المكان والزمان والمفتوحة في استخدام كل أسلحة القتل والدمار، وحلت مكانها حروب مجزأة لا تتواجه فيها القوى الكبرى المدججة بالسلاح النووي مباشرة في جبهات القتال، وتنتهي الحروب الصغرى بتسويات ترجح كفة على كفة، وتنتهي أحيانا بنصر كبير يتوجه انسحاب قوى كبرى من ساحات الحرب، مثل الانسحاب الأمريكي من فيتنام و الانسحاب السوفياتي من أفغانستان، لكن النظام في واشنطن وموسكو يبقى قادرا على احتواء تداعيات الخسارة.

- مع تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور أميركا كقوة وحيدة تسيطر على المسرح العالمي، توهم الأميركيون أنهم امتلكوا مفاتيح الانتصار في حروب القرن الجديد بأسلحة تقنية حاسمة من الجو، اختبروها في حرب يوغوسلافيا، وبنوا عليها ما قال عنه وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، أنه نظرية الحرب بخسائر سفر، حيث تسمح الحرب قبل أن تطأ أقدام الجنود الأرض، وسرعان ما صححت لهم حرب العراق وحرب أفغانستان أوهامهم، وقالت إن الحروب لا تحسم إلا على طريقة كلاوزفيتز، عندما تطأ أقدام الجنود الأرض، ومثلما خسرت أميركا حربي أفغانستان والعراق على الأرض خسر كيان الاحتلال حربي لبنان 2006 وغزة 2008 على الأرض، وقالت فيهما كلينتون ما قالته عن نهاية زمن الحرب الخاطفة والنصر الحاسم بالنسبة للكيان.

- يوضح لنا القرن الواحد والعشرين أن حروبه لم تعد حروب الطائرة والدبابة والمدفع التي كانت أسلحة الحروب في القرن العشرين، فلم نر في حروب القرن الجديد معارك جوية ولا حروب مدرعات كالتي حفلت بها حروب القرن العشرين، رغم أن حرب أوكرانيا جرت بين قوتين تملكان ما يكفي من الطائرات والدبابات لخوض حرب كهذه، فتحولت الطائرة الى حاملة صواريخ واختفت حروب الجو بين الطائرات، كما تحولت الدبابة الى حاملة مدفع واختفت حروب المدرعات عن اليابسة، ورأينا كيف أن الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة والدقيقة ومشارة البر المحترفين عناوين مسيطرة على حروب القرن، وتحول ما رأيناه قبل خمس سنوات في هجوم اليمن على منشآت أرامكو المحمية من القوات الأميركية إلى نموذج لحروب القرن، وجاءت حرب أوكرانيا تؤكد هذا التحول، وحفلت حرب غزة وحروب الجبهات المرافقة لها بالشواهد على هذا التحول.

- تغيرت أسلحة حروب القرن الواحد والعشرين، وتحولت أسلحة القرن العشرين الى اسلحة إسناد لا حسم، وصارت اليد العليا في الحروب لمن يملك القدرة على التفوق في هذه الاسلحة الجديدة، من يملك المخزون الضخم من الطائرات المسرة ويحسن توظيفها، ومن يملك المخزون الأكبر من الصواريخ الدقيقة ويتقن إطلاقها، ومن يملك القوة الأكثر مهارة واحترافا والأرفع في معنوياتها من مشاة البر، هو من يملك زمام المبادرة في الحرب، لكن ذلك فرض تغييرا في استراتيجيات الحرب وتكتيكاتها، فلم تعد حروب الحسم والضربة القاضية هي السائدة بل حروب الربح بالنقاط، وكما كانت قوى المقاومة هي السباقة في استخدام أسلحة الحرب الجديدة كانت السابقة في وضع نظريات الحرب الجديدة أيضا.

- لم يعد هدف الحرب المفترض هو النجاح بسحق العدو، ومن يضع هذا الهدف عنوانا لحربه يخسر الحرب لأنه لن يحقق هدفه المعلن منه، كما هو حال الكيان في حروبه منذ عام 2006 وكما هو حاله الآن، صار التفوق في الحرب يعني القدرة على خلق عقدة مستعصية للطرف المقابل فيها، عقدة يصعب حلها بالقوة من قبل هذا الخصم، مهما فعل ومهما بذل من جهد، وهكذا تدور حرب غزة وجبهات الإسناد على التنافس والتسابق حول من يخلق للآخر مزيدا من العقد المستعصية التي لا يملك الطرف المقابل حلها بالقوة، وفي حرب أوكرانيا بعدما فشل الغرب في التسبب بنهيار مالي لروسيا تحت وطأة العقوبات القاتلة، كعقدة لا يمكن حلها بالقوة، نجحت روسيا بإنتاج عقدة مستعصية لأوكرانيا والغرب هي احتلالها لشرق أوكرانيا وضمها لشبه جزيرة القرم، والقول إن هذه عقد لا يمكن حلها بالقوة، رغم كل الدعم المالي والتسليحي و الاستخباري الذي تقدمه دول الغرب لأوكرانيا، وجاء احتلال منطقة كورسك لوظيفة مشابهة، تتمثل بخلق عقدة يفترض أن روسيا لا تستطيع حلها بالقوة، وهو ما تسعى موسكو لإثبات عسكه، وعندما تنجح بذلك سوف تكون قد انتصرت في الحرب، والنصر يعني جلب الآخر، وهو أوكرانيا والغرب الى مائدة تفاوض بشروط موسكو.

- كان العمل الحربي المحدد الذي قامت به المقاومة يوم طوفان الأقصى إضافة للإنجازات المعنوية والاستراتيجية الكبرى المتمثلة بضرب صورة القوة الاسرائيلية، وما لذلك من تداعيات مستقبلية على الداخل الإسرائيلي والعلاقات بين الكيان والخارج و صورته كقوة يعتمد عليها في الغرب، هو احتجاز الأسرى والقول للكيان ان هذه عقدة مستعصية يصعب عليها حلها بالقوة، ومنذ احد عشر شهرا يسعى الكيان لإثبات العكس وهو يفشل، لكنه نجح بخلق عقدة مستعصية قوامها قتل المدنيين بالالاف وتدمير البنى الحياتية بلا رحمة في غزة، والقول ان ليس بمستطاع المقاومة حل هذه العقدة باللجوء إلى القوة، فجاءت جبهات الإسناد خصوصا في لبنان واليمن لتخلق للكيان ومن خلفه للأميركي عقدا مستعصية، بحجم تهجير مستوطني الشمال، وإغلاق البحر الأحمر، والقول لواشنطن وتل أبيب لن تستطيعوا حل هذه العقد بالقوة، وخلال كل شهور الحرب تفشل واشنطن وتفشل تل أبيب بحل هذه العقد بالقوة، وهكذا ينشأ التفوق الاستراتيجي لقوى المقاومة، الذي يترجم بإنتاج تحولات على الضفة العاجزة، ولذلك نشهد كيف أن الجبهة الداخلية لقوى المقاومة تزداد تماسكا وتتمسك بخيارها وراء مقاومتها حتى في الحلقة الأضعف في غزة، بينما بدأت الجبهات الداخلية في داخل الكيان تعيش التأزم والتفسح و الانشقاق والانقسام، وكلما زادت العقد المستعصية التي لا تحل بالقوة، على ضفة من ضفاف الحرب زاد تاثيرها على الضغط على الطرف العاجز حتى يصل الى قبول التفاوض وفقا لشروط الطرف الآخر والتخلي عن سقف شروطه املرتفع، وهذا ما جرى على كل حال في حرب تموز 2006 على جبهة لبنان، وفي حروب غزة اللاحقة حتى طوفان الأقصى، وهو ما يسميه محور المقاومة اليوم باستراتيجية الربح بالنقاط.

 

2024-09-07 | عدد القراءات 61