كيان الاحتلال يتأقلم مع حرب الاستنزاف؟
نقاط على الحروف
ناصر قنديل
- منذ يوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر العام الماضي، كانت استراتيجية محور المقاومة قائمة على خوض حرب استنزاف لكيان الاحتلال، سواء في بجهة غزة أو في جبهات الاسناد، وخلق عقد مستعصية لا يستطيع الكيان برغم الدعم الغربي اللامحدود وخصوصا الأميركي أن يحلها بالقوة، ورفض أي مفاوضات جانبية لحل هذه العقد وربط حلها حصريا بالتوصل الى اتفاق ترضى به المقاومة فلسطينية في غزة وعلى رأسها حركة حماس، وسميت هذه الاستراتيجية "استراتيجية الربح بالنقاط"، كما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأول بعد الطوفان.
- كانت استراتيجية كيان الاحتلال في مواجهة المقاومة في غزة وجبهات الإسناد قائمة على نظرية النصر المطلق والحاسم، سواء عبر المراحل التي شهدتها الحرب في غزة تحت عنوان فرض السيطرة والقضاء على المقاومة واستعادة الأسرى بالقوة، أو من خلال الرهان على فرض التراجع على جبهات الإسناد بالاستثمار على الردع الأميركي الذي رمى بثقله لمنع ما وصفه بمحاولات توسيع الحرب وجلب اساطيله وحاملات طائراته لترجمة ذلك، وعندما ظهرت نتائج الردع الأميركي محدودة وفشل هذا الردع في فرض حضوره على جبهات الإسناد ووقفها، كانت حسابات الكيان تقوم على التهديد بشن حرب شاملة لإقفال هذه الجبهات.
- خلال سنة الحرب التي تكتمل بعد أيام، فشل الاحتلال في قطاع غزة فشلا كاملا، فلم يتحقق النصر المطلق ولا النصر النسبي، ولم يتبق له من وسائل حضور وضغط الا المجازر المرتكبة بحق المدنيين وأغلبهم من النساء والأطفال، وفشلت محاولات القضاء على المقاومة التي تثبت كل يوم حيويتها وقدرتها على شن عمليات مؤلمة لجيش الاحتلال، كما فشلت محاولات استرداد الأسرى، وانتهت أغلب عمليات استردادهم بالقوة إلى قتلهم، بينما فرضت الجغرافيا على الكيان التسليم بالعجز عن حسم المواجهة مع اليمن والعراق، خصوصا في ضوء الفشل الأميركي في تحقيق ذلك، وتحولت جبهة لبنان المكان الوحيد المتاح لتقديم نموذج عن نصر حاسم، أملا ببدء مسار جديد في السيطرة على حرب غزة، تحت عنوان الحل التفاوضي الذي لم يعد ثمة مجال لتفاديه، وبات سقف آمال الكيان ينحصر بتغيير شروطه.
- خلال الشهرين الأخيرين أجرى الاحتلال أضخم اختباراته لخيار النصر الحاسم والحرب الكبرى، ونجح بحشد تأييد واشنطن ومشاركتها في خطة استهداف طهران وبيروت وقتل القائدين الكبيرين اسماعيل هنية وفؤاد شكر، على أمل أن يخلق ميزان الردع بمشاركة واشنطن ما يكفي لمنع الردود على العمليات، بالتوازي مع الرهان على احتواء وتوظيف نتائج اغتيال رئيس حماس في إعادة إنتاج بنية قيادية ملائمة تفتح طريق مسار تفاوضي مناسب في غزة يشكل غطاء لاحتواء مشاريع الردود من إيران ولبنان، وقد بات ممكنا الحديث عن فشل كامل لهذه الخطة، فجاء انتخاب القائد يحيى السنوار أول رد عليها ثم تثبيت شروط لا تراجع عنها للتفاوض، ثم تريث جزئي برد أول من لبنان، ثم الرد الذي استهدف إحدى أهم المؤسسات لا استراتيجي للكيان في تل أبيب، بعد غارات أسماها الكيان بالضربة الاستباقية لتعطيل الرد، وبين وقوع الرد وإعلان قادة الكيان عدم الرغبة بالحرب مرت ساعات تاريخية على قيادة الكيان، بين اتخاذ قرار التحرك فورا لشن الحرب، التي لن تأتي ظروف مماثلة لشنها، أو التراجع كليا عن نظرية النصر الحاسم والحرب الشاملة والتأقلم مع حرب الاستنزاف، فجاء تصريح وزير الحرب يوآف غالانت صاحب الدعوة الدائمة إلى اعادة لبنان الى العصر الحجري وابعاد حزب الله بالقوة الى ما وراء الليطاني يعلن ان الحرب على حزب الله ليست الآن، بل في المستقبل البعيد، ايضاحا لمن بقيت الأمور ملتبسة عليه بأن الأمر قد حسم، ومخطئ من لا يربط بين ذلك واندفاع الكيان كله نحو المسار التفاوضي، سواء بسقف مرتفع يمثله بنيامين نتنياهو، الذي ترجم اعتماد المسار التفاوضي كاتسارتيجية بديلة للحرب الشاملة، بلجوئه الى التصويت داخل المجلس الوزاري على التمسك بالبقاء في محور فيلادليفيا، وهو امر لا يجب ان يجذب اهتمام من يعتمد استراتيجية النصر المطلق، بل من يعتمد استراتيجية التفاوض.
- رغم ذلك بقي الكثيرون يقولون إن خيار الحرب لا يزال على الطاولة بالنسبة لقادة الكيان، وكان هؤلاء يوظفون تذمر قادة الكيان من الوضع المتردي في المشال و وعودهم بحل معضلات تهجير المستوطنين بمزيد من العمل بوجه حزب الله، للقول إن هذه التصريحات تمهيد للحرب، ولكن أغلب هؤلاء كانوا يعبرون عن تمنياتهم بشن الكيان للحرب لأنهم بنوا كل خطابهم المناوئ للمقاومة على فرضية تفوق الكيان وقدرته على شن الحرب، ولذلك لم ينتبهوا إلى أن مفردات قادة الكيان تغيرت، فلم يعد أحد يستخدم مفردات الحرب ولا إبعاد حزب الله الى ما وراء الليطاني ولا اعادة لبنان الى العصر الحجري، وقد حلت مكانها مفردات ملتبسة مثل مواصلة العمل، والاستعداد لتغيير الوضع، واستحالة التأقلم مع الوضع الحالي، وملاحقة قادة وعناصر حزب الله، وتوجيه ضربات مؤلمة لقوات الحزب، ولم ينتبهوا إلى ما هو أهم، وهو أن هذه مفردات حرب الاستنزاف، لأن أحدا لم يقل لهم ان الحرب سوف تتوقف، والنقاش هو هل نحن أمام حرب كبرى أم حرب استنزاف؟
- تغيرت أشياء كثيرة بعد ضربة حزب الله التي يرغب الكثيرون إنكار تاثيرها لأنهم يكرهون المقاومة، ويعمي حقدهم قدرتهم على الفهم والتبصر ولا بصر أحيانا، والأكيد وفق قواعد العمل العسكري، ان يوم 25 آب كان يوما عصيبا على قادة الكيان، حيث الخيارات على الطاولة، الجيش في حال استنفار وجهوزية تحسبا للرد منذ قرابة الشهر، و200 طائرة في الأجواء اللبنانية بعد تنفيذ غارات على مواقع قيل وصفها نتنياهو بالضربة الاستباقية، ويفترض وفق الرواية ذاتها إن أضرارا بالغة لحقت بالقدرة الصاروخية للمقاومة، لكن ذلك لم يمنعها بعد نصف ساعة من تنفيذ الرد الذي وعدت به ووصلت الطائرات المسيرة الى تل أبيب كما اعترفت هيئة البث الاسرائيلية الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم، فاما إصدار الأوامر بشن الحرب وتقدم القوات عبر الحدود ومواصلة الطائرات تنظيم الغارات، أو صرف النظر عن خيار الحرب، فجاءت التصريحات تعبر عن القرار الأشد خطورة الذي كان على قادة الكيان اتخاذه، صرف النظر عن خيار الحرب الكبرى والتأقلم مع قواعد حرب الاستنزاف.
- جاءت عملية الضفة الغربية ترجمة لقرار صرف النظر عن خيار الحرب الكبرى على جبهة لبنان، واعتماد المسار التفاوضي، الذي ترجمه تصويت المجلس الوزاري على شرط التفاوض، حول البقاء في محور فيلادلفيا، وجاءت عملية الضفة الغربية عملية استباقية لامكانية التوصل لاتفاق في غزة، بغرض السيطرة التامة على الضفة واعتبار صورة النصر فيها ثمرة للحرب على غزة، والرهان على حماية وحدة الحكومة بعائدات هذا النصر لأهمية الضفة في حسابات مكونات الحكومة، لكن العملية فشلت في تحقيق أهدافها، وجاءت صورة العرض العسكري في مخيم جنين أول أمس ومشاركة مئات المقاتلين بكامل أسلحتهم فيه، إعلان فشل ذريع للعملية، وسقوط آخر آمال صورة نصر حاسم ولو في الضفة!
- توجه قادة الكيان نحو عمليات استهداف داخل الأراضي السورية بدلا من شن الحرب على لبنان للقول انهم يضربون خط إمداد المقاومة ومستودعات سلاحها النوعي، وأن هذا هو طريق تغيير الوضع في جبهة الشمال، لكنهم كانوا عمليا يعبرون عن التأقلم مع قواعد حرب الاستنزاف، ثم جاءت عملية الكرامة على الحدود الأردنية تضع على الطاولة الحاجة الانتباه لمخاطر لا يمكن تفاديها دون نشر فرقتين على أطول حدود عربية عم فلسطين المحتلة، وما يرتبه ذلك من إضعاف فعالية القدرات العسكرية في جبهات غزة ولبنان والضفة الغربية، والوقت الذي سيمر على الحرب حتى تتوقف ليس إلا الوقت اللازم لانتقال الكيان من التأقلم مع حرب الاستنزاف وحتمية المسار التفاوضي إلى التأقلم مع حتمية قبول شروط المقاومة للوصول إلى حل تفاوضي.
- خسر بنيامين نتنياهو بالضربة القاضية عندما خسر رهان الحرب الكبرى والنصر الحاسم، ويدرك خصومه داخل الكيان أن عليهم جعله يدفع ثمن خياراته ورهاناته بعدما صار الصراع على أرضية التسليم بخيار التفاوض، وهذا ما تقوله التظاهرات داخل الكيان، لن يعود الأسرى أحياء إلا بقبول وقف الحرب والانسحاب من كامل قطاع غزة، ولن تفتح مدارس مستوطنات الشمال إلى عندما تفتح مدارس غزة ولو في خيام النازحين بعد وقف الحرب.
2024-09-11 | عدد القراءات 38