الخيال الخصب للكثيرين كان يأخذهم بعيدا عن الحقائق والوقائع التي ترسم مسار التطورات وسياقاتها ، فيعتبرون أن كل شيئ يتقرر عبر الخريطة العسكرية للجغرافيا ، ويستنتجون من وضع جبهة النصرة وداعش لأيديهما على مناطق معينة في سوريا والعراق أن خطر التقسيم صار محدقا بهما ، بينما كان المنطق التاريخي يقول أن خرائط الخوف والكراهية هي التي ترسم جغرافيا التقسيم وليست خرائط القوة ، لأن خرائط القوة قابلة للتغيير بوجود القرار والرغبة والإرداة بالوحدة وتوفير أسباب القوة لتحقيقها .
وقائع سوريا تقول ان التقسيم يقع عندما ترتكب الطوائف المتهمة أنها قوة الدولة والجيش ردات فعل طائفية وعندما يعطي ذلك المصداقية لدى ابناء الطوائف الأخرى للخطاب التحريضي الذي يقول أنه آت لحمايتهم من بطش طائفي ينتظرهم ، وعندما لا يحدث ذلك ويكتشف هؤلاء أن إعمال السكاكين برقابهم يتم على ايدي من إدعوا أنهم موجودون لحمايتهم وأن الرعاية والعناية تأتيان من الدولة والجيش والبئة الحاضنة لهما ، وان هذه البيئة عابرة للطوائف وليست من لون واحد كما قيل لهم ، يسقط مشروع التقسيم ولو بقي إحتلال بعض الجغرافيا شهورا بل ربما سنوات ينتج عن هذا الإحتلال مزيد من إنفضاح برامج اصحابه وطابعها المتوحش والإقصائي والإستئصالي ضد كل البشر مهما كان دينهم ومذهبهم لمجرد عدم إنتمائه لعصابتهم.
وقائع العراق تقول أنه رغم الإختلاط الذي عاشه العراقيون بين المذهبي والسياسي خلال حكم النظام السابق وتعرض أبناء طائفة الأغلبية العراقية للإضطهاد على أساس إنتمائهم الطائفي ، ومن ثم خلال فترة الإحتلال الأميركي ، وزرع بذور الفتن وإلتباسات العملية السياسية التي أوحت بتسليم الحكم لطائفة وإقصاء طائفة ، ومجيئ تنظيم القاعدة بعنوان مقاتلة الأميركيين ثم مزاعمه عن حماية طائفة مظلومة في العملية السياسية وتفرغه لعمليات إبادة وقتل على أساس طائفي للآلاف من العراقيين بإدعاء حماية أبناء طائفة مظلومة ، حتى ظهور داعش وبدء المجازر المستهدفة لكل العراقيين بلا تمييز بين طوائفهم ، حتى بدا أن من إدعت القاعدة حمايتهم هم أكثر ضحاياها تضررا ، وعندها ثبت أن العراق يتعرض لخطر التقسيم عندما تتسلل الكراهية كثقافة إلى القوة السائدة المسلحة و ظهور كراهيتها على أساس طائفي بأفعال تتصل بمستقبل البلد وإستدراج ثقافة الخوف والثأر مقابلها ، وبدا أن العراق يتخطى كما تخطت سوريا هذا الخطر لأن النضج السياسي في البلدين حال دون وقوع ردات فعل طائفية على المجازر التي طالت المكون الطائفي المتهم بأنه قاعدة الدولة والجيش ، وظهر أن الدولة والجيش وجمهورهما حاضنة لكل أبناء الوطن ، ورغم وجود مشاريع معدة سلفا لتقسيم البلدين ثبت أنهما صامدان وباقيان على الوحدة والقدرة على عبور المحن والفتن .
السعودية التي تتعرض لظهور علني لأعمال متتالية لتنظيم القاعدة ، من خلال جناحه الأيسر داعش ، لا تستهدف للمرة الأولى الأمن السعودي ولا الوجود والمصالح الأميركية ، بل المناطق التي تنتمي إلى اللون الطائفي الذي تقول بيانات داعش أنهم إمتداد إيراني وشركاء في الخطر على ابناء الطائفة الذين وجدت القاعدة لإدعاء حمايتهم في العراق وسوريا وقامت بذبحهم لاحقا ، و إكتشفوا أكذوبتها .
كل شيئ يقول في السعودية ان ثقافة الكراهية هي الثقافة الرسمية للدولة وأجهزتها ، وأهل المنطقة الشرقية ينتفضون ويتحركون ويطالبون منذ سنوات سلما لإنصافهم كمواطنين وإلغاء إجراءات التمييز العنصري بحقهم ، وثقافة الكراهية هي الفكر الوهابي وهو الفكر الرسمي للمملكة وفتاويها العدائية والعنصرية والتي تدعو للقتل والتكفير والتي ولد تنظيم القاعدة وفكره في كنفها ، فثقافة الخوف والذعر موجودتان حكما لدى سكان المنطقة الشرقية ، وشكوكهم بتورط أجهزة الدولة بإستهدافهم كثيرة، وجدية ، وهم قبل شهور كانوا عرضة لمذابح على أيدي أجهزة الدولة التي يفترض أن تحميهم اليوم ، وحتى لما جاءت بيانات التضامن معهم بطلب رسمي لتكحيل المشهد جلبت العمى ، فتضمنت الفتاوى التي تحرم قتلهم توصيفهم بأشنع الأوصاف و معاملتهم بأدنى درجات الآدمية .
الكراهية في ضفة والخوف في ضفة ، وإستثمار داعش هو على ثقافة الكراهية الرسمية لتقول أن ما تفعله هو ما تحب له الدولة أن يحدث لكنها لا تجرؤ لأنها دولة ، ويراهن داعش على جذب الكتلة السعودية المؤيدة للدولة مذهبيا وراءه تحت شعار أن الدولة تقول لنا تعالوا نقاتلهم في اليمن وهم هنا اقرب إلينا فلنقتلهم معا .
سيلقى داعش قبولا في ضفة ويستثير تسليحا ومواجهة في ضفة تشعر أنها متروكة لقدرها وأن الدولة تتركها لقمة سائغة للقتل ، فتقع المواجهات المحلية وترفع المتاريس وترتسم خطوط القسيم التي فشلت في سوريا و العراق لأن الدولة هنا تختلف عن الدولة هناك وثقافة البيئة الحاضنة للدولة هنا مختلفة عن ثقافة البيئة الحاضنة للدولة هناك .
2015-05-30 | عدد القراءات 4853