عن حياة زاخرة بصناعة الأحداث ترجل الفارس الأسود عن حصان الحياة ، ليرحل إلى الحياة الأبدية ، يعوض ليال من نوم فاته في سجنه لثلاثين عاما تقريبا ، تعادل ثلث عمره الأجمل ، وقد دخل السجن وهو في الأربعين ، بعدما أنهى كل إستعداداته لحياة شخصية وسياسية كواحد من أبرز رجالات القانون وعلمائه ، وأحد أبرع رجال السياسة ، وخرج وهو في السبعين يواصل هذه الحياة ، واهبا نفسه لإنسانية مريضة قال فيها :
" إني أتجول بين عالمين أحدهما ميت والآخر عاجز عن أن يولد وليس هناك مكان بعد أريح رأسي عليه "
سيرة حياة مانديلا ترتبط بكونه البطل التاريخي لنهاية العنصرية كحقبة إستعمارية ، حقبة وقحة كانت تملك فلسفتها وتصنع للقتل والإستعباد مشروعية قانونية وأخلاقية ، تسمح لدول تتباهي بكونها طلائع الحضارة الإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان ، كأميركا وبريطانيا بحماية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ، وممارسة ما يشبهه في التعامل مع زنوج أميركا ، وما يشبهه مع كاثوليك بريطانيا ، فدائما كانت قشرة الحضاره تغلف جوهرا عنصريا عنوانه وجود بشر هم طبقة أدنى .
نصر مانديلا بالجمع المبدع فكرا وممارسة بين النضالين المدني والمسلح ، كان فاتحة تهاوي هذا الزيف وهتك قناع الحضارة لدول الغرب ، وبداية مسار توج بحصول زنوج اميركا على حقوق إنسانية مساوية للبيض ، إنتهت بوصول باراك أوباما للرئاسة الأميركية ببركة عذابات مانديلا ، كما توجت بشراكة الإيرلنديين الكاثوليك في السلطة بندية موازية للبروستانت المحميين بالتاج البريطاني ، وكانت فلطسين النموذج الخاضع للعنصرية الصهيونية حاضرة دائما في وجدان مانديلا ، الذي رحل وفي صدره حرقة فلسطين وغصة جدار الفصل العنصري ، الذي وصفه بآخر نماذج كيب تاون التي مزقتها في زمن العنصرية جدران الفصل المشابهة .
رحل مانديلا الفيلسوف وليس المناضل فقط ولا الأيقونة فقط ، فعبقرية مانديلا تركت الميراث الذي بدونه لن يكتب لشعوب عرفت النزاعات الأهلية والعصبيات الممزقة لوحدتها ، أن تعرف التعافي ، ولهذا لم يكن الجيش الجمهوري الإيرلندي في مفاوضاته مع البريطانيين وقادة المساواة المدنية في اميركا ، بحاجة لأكثر من وصفات مانديلا .
قال مانديلا ثلاثا لا ينساها مناضل ولا فيلسوف ولا مفكر :
- التسامح الحق لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل
- الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات فإما أن يكون المؤ حرا أو لا يكون حرا
- إننا نقتل أنفسنا عندما نضيق خياراتنا في الحياة
ترجل الفارس الأسود مختتما رحلة عذاب لملايين الضحايا من أبناء البشرة السوداء ، طوال آلاف السنين ، ملاقيا بلال الحبشي الذي إتخذه الرسول مؤذنا للمسلمين ، في أبلغ رسالة للبشرية على رفض العنصرية ، إستباقا لتاريخ يجب أن يقال في وصفه كلمة اخرى غير كونه أسودا ، فمع مانديلا يجب إعادة النظر بإستخدام كلمة اسود للدلالة على السوء ، لأننا من حيث لا ندري نصبح جزءا من ثقافة عنصرية لا واعية ، فالتاريخ الجيد ابيض والتاريخ السيئ اسود، أليست أسوأ وصفة للثقافة العنصرية ؟
ألف تحية للراحل العظيم الذي فقده كل من في عروقه نبض إنسان آدمي .
2013-12-06 | عدد القراءات 3950