حين يعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وافريقيا ميخائيل بوغدانوف بدء موسكو الخطوات العملية للإعداد لعقد مؤتمر جنيف3، فإنه ينطلق من أرضية سياسية ودبلوماسية صلبة ولدت معطيات ملموسة سمحت لدينامو الدبلوماسية الروسية وراسم التفاهمات الكبرى، بالجزم بنضوج الظروف الدولية والإقليمية والسورية بما يسمح للسير في التسوية السياسية للأزمة،وبمقارنة تصريحات بوغدانوف الأخيرة مع كلامه قبل عام ونصف عن أمل بلاده بتعاون الأمم المتحدة و واشنطن لعقد جنيف 3 يتضح الفارق في الخطاب والناجم بالطبع عن تغير في المعطيات باتجاه عقد المؤتمر.
خلال عام ونصف برزت غلبة محصلة القوى الدافعة باتجاه عقد المؤتمر وازدادت فاعليتها ،على حساب القوى المعرقلة لإمكانية جعل جنيف 3 منطلقاً لعملية تفاوض تتطلب، توفر الإرادة السياسية والصبر والوقت بحسب ما عبر عنها بوغدانوف, إرادة لم تكن متوفرة لدى أطراف الحرب على سورية وعبر الصبر وتمرير الوقت نجحت سورية وحلفاؤها باستثماره لحين حلول الوقت المناسب.
شكل الإدراك الأميركي باستحالة السير في خيارات واشنطن بالحرب على سورية بداية الانعطافات السياسية نحو تسهيل انعقاد المؤتمر ،بعد فشلها بتصنيع قوى سياسية معارضة تقنع الرأي العام والقوى السياسية العالمية بأن تكون البديل السياسي للمؤسسات القائمة والقادر على إدارة سورية وإخراجها من حالة الحرب التي صنعتها واشنطن والقوى الإقليمية التابعة لها ،تزامناً مع استعصاء الجماعات المسلحة على الأرض بإحداث انقلاب في المشهد الميداني رغم الدعم المباشر لتلك المجموعات ،ومحاولات فرض ضبعة الاعتدال عليها ليظهر تمايزاً في الشكل عن تنظيمات داعش والنصرة القاعدية الهوى والهوية.
منح توقيع الاتفاق النووي الإيراني فرص إضافية باتجاه انعقاد المؤتمر ،ورغم التأكيد الإيراني والدولي على فصل مسار مفاوضات الملف النووي عن أيه ملفات أخرى إقليمية أو دولية ،إلا أن الاعتراف الدولي بطهران عاصمة نووية وما شكله الاتفاق من نموذج لحل القضايا العالقة بطرق سلمية، رغم قرع طبول الحروب والتهديد والوعيد بما يشابه الحالة السورية، فالتسليم بالحل السياسي لم تقدمه واشنطن والغرب عن طيب خاطر أو عن ثقة مطلقة بالطرف الآخر، إنما عن انتفاء البدائل، والوصول إلى طرق مسدودة وتحو�'ُل طهران من معرقل لحل الأزمة السورية في جنيف 2 إلى أحد مفاتيح الحل في جنيف 3 بحسب المنطق الأمريكي.
يسهل على المتابعين للمشهد السياسي إدراك حجم مأزق جناحي واشنطن في المنطقة، فرأس الحربة في الحرب على سورية والمتمثل بتركيا الحرية والعدالة يحاول الخروج من مستنقع الانتخابات التشريعية التي منحته الدفعة الأولى من مستحقات تورطه في سورية، وبدلاً من الاعتراف بالهزيمة والقبول بها يسعى للهروب إلى الأمام، على أمل أن تنقذه الانتخابات المبكرة في الأول من تشرين الثاني والتي تشير استطلاعات الرأي فيها لتلقي العدالة والتنمية ضربة أقسى من الجولة الأولى، باحتمال حصوله على أقل من 40 % مقابل ارتفاع حصة حزب الشعوب الديمقراطي إلى 14% ، ما يعني انقلاب سحر حرب آردوغان ضد حزب العمال الكردستاني على ساحرها, رغم حملات التضييق على نواب الشعوب واعتقال رئيسبلديةصوروسيلوان عقب إعلانهما الإدارةالذاتية، وهو ما يقلق آردوغان وينهي مشروعه السياسي أكثر من خسارة الانتخابات رغم قساوتها ،فيما مسدد فواتير الحروب الأميركية في المنطقة والأمم الحنون للمسلمين كما تسوق نفسها مملكة آل سعود،أفقدتها حربها في اليمن الصواب والقدرة على التأثير في المشهد السوري، باستثناء ضخ المزيد من المسلحين المتطرفين ونشر الفكر الوهابي بمسميات عدة وهو ما يضعف تأثير القوى الرافضة للحل السياسي في سورية.
زحمة المبادرات في المنطقة بين إيرانية سياسية وروسية أمنية ودور عماني يأتي من الحديقة الخلفية، كوسيط يمتلك من الامتيازات ما يؤهله للعب دور فاعل في الحل السوري يشبه الدور الذي لعبه في تقريب وجهات النظر بين طهران وواشنطن حول الملف النووي، خاصة وأن الدبلوماسية العمانية ترفض إعطاء أي إشارات أو لعب دور وساطة دون الحصول على ضمانات دولية.
بين السياسة والعسكر نجحت روسيا بدبلوماسيتها الهادئة باقتناص الفرص المناسبة لطرح المبادرات، وإنضاج التسويات ومعها وفر صمود سورية وحلفاؤها المناخ الملائم للسير في مسارات الحل ...فهل يبدو جنيف 3 قريباً ؟؟ إن غداً لناظره قريب ولحين انعقاده تبقى الكلمة لرجال الله في الميدان.
2015-08-20 | عدد القراءات 2203