تبدأ الحكاية من ثنائية فيتنام وأفغانستان ، حيث تناوبت واشنطن وموسكو على مكانة المنتصر والمهزوم كما تبادلتا موقع الداعم لمجموعات حرب العصابات بوجه التدخل الخارجي وموقع من يتولى هذا التدخل الخارجي ويهزم ، التعادل الفيتنامي الأفغاني لروسيا وأميركا ، كان خداعا بصريا ، ففي فيتنام كانت هزيمة أميركا أمام مقاومة وطنية شعبية لغزو أجنبي استعماري ، وفي أفغانستان كانت هزيمة السوفييت أمام الإرهاب الذي سيضرب لاحقا في كل أنحاء العالم كصناعة أميركية لبديل عن التدخل المباشر في الحروب تماشيا مع نتائج ما سمي بعقدة فيتنام ، وعلى عكس نهاية حرب فيتنام ببناء دولة وطنية فيتنامية لم تتأخر واشنطن عن بناء علاقات طبيعية معها ، انتهت حرب أفغانستان بعد الانسحاب الروسي بالتحول إلى قاعدة لإرهاب يشكل اليوم باعتراف أميركا المعضلة الأولى للعالم . صممت واشنطن بعد نجاحها بتفكيك الإتحاد السوفيتي وتهميش روسيا ، للسيطرة على العالم بالرهان على الشفاء من عقدة فيتنام والعودة للغزو العسكري ، بقوة أحداث أيلول 2001 التي نفدها "مجاهدو أفغانستان" الذين صنعتهم واشنطن قبل عقدين من الزمان ، و كان الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق ، والفشل فيهما يتكفل بإحياء عقدة فيتنام والانصراف عن الرهان على الحروب ، وإعلان نهاية نظريات الحرب خسائر صفر التي تورط بها الأميركيون من حربهم في يوغوسلافيا ، فعادوا للاحتواء المزدوج للقاعدة ، يقاتلونها حيث تتقرب من خطوطهم الحمراء ، ويراهنون عليها للجم التمدد الإستراتيجي لروسيا والصين وإيران والمتوقع مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان ، بتفويض القاعدة بمنوعاتها إسقاط سوريا كحاجز يمنع الثلاثي الأسيوي الصاعد من بلوغ حوض البحر الأبيض المتوسط . فشلت واشنطن مرة جديدة ، و تجذرت القاعدة وتنوع نسلها و تهجنت أجيال جديدة ليست كلها تحت السيطرة رغم ما تحظى به من الاحتواء المزدوج ، عبر السعودية وتركيا تحديدا ، وترتب على توريد الإرهابيين بوهم التخلص منهم ، أن يتناسلوا بسرعة أكبر فصار عدد الأجيال الجديدة منهم في البلدان التي غادروها إلى سوريا والعراق عشرة أضعاف ما كان عليه أسلافهم قبل عمليات التوريد المنظم من دول الغرب بصورة رسمية وشبه رسمية ، وبقي التدخل العسكري الأميركي الموضعي الذي حاولت الأساطيل تشكيل طليعته ولما صار الخيار حرب شاملة وعادت الأساطيل كما جاءت ، صار المشهد الدولي يبدأ من الشرق الأوسط ، بثنائية اللاجئين المتدفقين والإرهاب المتجذر والعائد ، والفراغ الإستراتيجي ما بعد الانسحاب الأميركي خطر داهم ، والعالم يحتاج ضامن استقرار ، ربما لا يتمناه لكنه يحتاجه ، لا يرغب بانتصاره لكنه لا يتحمل الاستنزاف بغيابه . تموضع روسيا بوجه الإرهاب وتثبيتا للدولة المدنية في سوريا ، يملأ هذا الفراغ الإستراتيجي ، ويشكل ضامن الأمن الإقليمي ، ويسقف الشرق الأوسط بلغة التفاوض بدلا من الحروب ، و يفتح لقوى المقاومة فرص العمل لكنه يحول بينها وبين حرب قادمة ضد إسرائيل ، يسرع عودة العافية لسوريا وجيشها ، ويساهم في تقديم فرصة التسريع لتبوأ مركز القوة الأولى في المنطقة أمام إيران مع التغييرات المرتقبة لكل من تركيا بعد الانتخابات والسعودية بعد هيستيريا حرب اليمن ، لكنه يضعها قوة سياسة بلا حروب قادمة ، قادرة على دعم المقاومة تحت سقف حصر المواجهة بالدائرة الوطنية لشعب فلسطين دون حرب تعبر الحدود ، يدير اقتصاد النفط والغاز في الشرق الأوسط وأنابيبه بدلا من الدور المصطنع لتركيا وقطر وإسرائيل ، ويؤمن تدفقا سلسلا للطاقة لكن لحساب معادلات النمو لإيران وروسيا والصين . روسيا تشفى من عقدة أفغانستان فتأتي لتهزم الذين قاتلوها هناك ، وهي تشفي أميركا والغرب من وهم النوم مع الشيطان والتعاون مع الإرهاب ، وتثبت خيار الدولة الوطنية المدنية كنموذج للمنطقة ، انطلاقا من سوريا ، وتتبوأ روسيا مكانة مدير البحر المتوسط وآسيا و الشرق الأوسط معلنة ولادة أوراسيا من معادلة روسيا وإيران والعراق وسوريا وولادة نظام عالمي جديد ستتبلور ملامحه تدريجيا .
2015-10-10 | عدد القراءات 2523