أدركت واشنطن منذ فشل حربيها في العراق وأفغانستان أن أول ما يجب أن تتعلمه هو التقيد في حركتها العسكرية بحدود التغطية القانونية الشرعية ، فربطت تدخلها بليبيا بتغطية مجلس الأمن ، وترددت كثيرا بالتدخل في سوريا لغياب هذه التغطية بعد الفيتو الروسي الصيني المزدوج ، وإكتفت بتشكيل التحالف ضد داعش بإتفاقياتها مع الحكومة العراقية ، وتقيدها بعدم التورط بإستهداف الجيش السوري في عملياتها الجوية في سوريا ، وعندما فعلت ذلك في غارة دير الزور سارعت للإعتذار ووصف ذلك بالخطأ ، ولو من باب اللعب السياسي ، وحصرت عملياتها بداعش على قاعدة تفادي التصادم العملي مع الدولة السورية ، التي وصفت الدور الأميركي بغير الشرعي ، لكنها لم تطور الموقف إلى التصادم ، وأظهر الأميركيون حرصا على التوصل للتفاهم مع موسكو على التنسيق العسكري بإعتباره نوعا من الشرعية المستمدة من إتفاقيات روسية سورية تضفي شرعية نسبية على هذا الدور الأميركي ، ولم يخف وزير الخارجية الأميركية جون كيري امام وفود المعارضة السورية في لقائه بهم في نيويورك ، وفقا للتسجيل المسرب عبر النيويورك تايمز ، عجز حكومته عن التصعيد أسوة بروسيا ، لأنها لا تتمتع بالتغطية القانوينة الشرعية للتدخل التي تملكها موسكو .
تصرفت تركيا مع حادث إسقاط الطائرة الروسية بصلف ، لم تعتمده واشنطن في غارة دير الزور ، حتى يخال المراقب أن تركيا هي الدولة الأعظم في العالم ، وعندما عادت تركيا ذليلة تعتذر لموسكو وتتوسل إعادة العلاقات ، حاولت مراكمة سلوكيات تمنحها وضعا خاصا عسكريا في سوريا ولاحقا في العراق ، مرة تحت شعار الحرب على الإرهاب ، الذي تعلم أنقرة ويعلم العالم دورها في رعايته وتوفير شروط الحياة والقوة لتشكيلاته ، ومرات تحت شعار الأمن القومي التركي ، المرتبط هو الآخر مرة بالدفاع عن جاليات تركمانية في سوريا والعراق ، وهم مواطنون سوريون وعراقيون ، تحشر أنقرة أنفها في سوريا والعراق بحجة مسؤوليتها عن أمنهم ومستقبلهم ، ومرة بملاحقة المجموعات الكردية المسلحة في العراق ، ومنع قيام شريط كردي حدودي بين سوريا وتركيا ، تنمو فيه جماعات كردية مناوئة لتركيا ، لكن أنقرة رفضت كل مساعي تفاهم سياسي عرض عليها من موسكو وطهران لضمان هذا المفهوم لأمنها وصد المخاطر التي تتهدده ، عبر التعاون مع الحكومتين السورية والعراقية ، واصرت على مفهوم حق التدخل من وراء ظهر الحكومتين ورغما عنهما ، فتختبئ تحت عنوان التحالف الذي تقوده واشنطن ضد داعش ،ولما تيأس من فرص التغطية ، تجاهر بالبلطجة ، والزعرنة ، والقول العلني أنها ستفعل ما تراه مناسبا ، وتتطاول على سيادة الدولتين بذريعة ظروفهما الداخلية وإدعاء عجزهما عن الإمساك بجغرافيا بلديهما ما يضطر أنقرة لتفعل ما يحتاجه أمنها ، في هذه الجغرافيا الفالتة والسائبة بنظرها ، ومعلوم أن التفلت والتسيب قد حدثا برعاية تركية رسمية بفتح الحدود للجماعات المسلحة التي تعبث بأمن البلدين .
خلال الشهر الماضي إتبعت الحكومتان السورية والعراقية خطوات متدرجة في التصدي للمشاغبات التركية ، وفي مواجهة العبث الذي يمارسه سلطان الوهم العثماني الذي تذكر ولاية الموصل وولاية حلب ، وسناجق السلطنة ، وسربها في خطابه العلني ، فبعدما فتحت الحكومة العراقية حربا دبلوماسية على التوغل التركي وفازت بالحصول على دعم مجلس الأمن الدولي لسيادتها ، وبرفع الغطاء الأميركي عن إدعاءات أنقرة بالعمل تحت راية التحالف الدولي ، وجعلت الوجود التركي عاريا من اي غطاء ، ولوحت بمقاومة شعبية وطنية لهذا الوجود كإحتلال أجنبي ، بينما أصدرت الحكومة السورية بداية بيانا حذرت فيه تركيا من إنتهاك أجوائها ، ثم بعد الغارة التركية التي تسببت بمجزرة بحق المدنيين من أكراد سوريا ، أعلنت القيادة العليا للقوات المسلحة عن عزمها إسقاط اي طائرة تركية تدخل الأجواء السورية ، بالتزامن مع إعلان روسي عن تزويد سوريا بصواريخ اس 300 ردا على تهديدات أميركية بعمل عسكري ضد الجيش السوري ، بعدما بات واضحا أن أي توغل تركي يحتاج لغطاء جوي ، خصوصا مع مدى المعارك التي يستعد لها الأتراك شمال سوريا ، تحت إسم درع الفرات ويتخذون داعش ذريعة والأكراد هدفا ، بينما يضعهم التقرب أكثر على تماس مع خطوط إنتشار الجيش السوري وعلى أطراف مدينة حلب بما لها من قيمة إستراتيجية .
بالأمس نفذ الجيش السوري أولى الغارات على مواقع عملاء الأتراك الذين يعملون تحت مسمى الجيش الحر ، وعملية درع الفرات ، وفي قلب الإشتباك البري بين درع الفرات والمجموعات الكردية ، قال الجيش السوري أنه سيتصدى لكل تقرب تركي من مواقع حلفاء الجيش السوري ، معيدا للجماعات الكردية صفة الحلفاء ، بعد فترة جفاء تسببت بها الرهانات الخاطئة للجماعات الكردية على الأميركيين ، الذين خذلوهم في جرابلس وفاوضوا على فروة رأسهم مع الأتراك ، كما حاول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ان يفعل بالعراقيين في مفاوضاته في أنقرة ، وأفشله العراقيون بثباتهم عند خطوط السيادة ورفض ما أسماه بايدن بالتفاهم ، وبالتزامن مع بدء سوريا بترجمة الردع الميداني للزعرنة التركية ، قام الحشد الشعبي العراقي بالإعلان عن بدء تقدمه تحو تلعفر ، التي تشكل ظهير مدينة الموصل غربا ، ويريد داعش عبورها بإتجاه الحدود السورية ، والتي تتواجد فيها أكبر نسبة من التركمان الذين يتخذهم الأتراك أحد ذرائعهم لتدخلهم ، كما يتخذون من دور الحشد الشعبي والتهويل بمخاطر حرب طائفية يتسبب بها تدخله ، ليصير الأمتحان التركي الآن مكلفا ، إما ركوب الرأس نحو توسيع التدخل لتصير نصف حرب ، وربما حربا كاملة ، أو الإنكفاء وإرتضاء الخيبة ، والوقوف عند حدود تواجدهم الراهنة ، التي ستفقد مشروعيتها ومهابتها ، وتصير مسألتها مسألة وقت .
المبادرتان السورية والعراقية ، تنمان عن تنسيق عال بين البلدين بلا ضجيج ، وعن تنسيق بينهما وبين الحليفين الروسي والإيراني ، وعن القيمة التي تعنيها السيادة الوطنية للقيادتين ، والشجاعة الوطنية التي تتسم بها في ظروف صعبة ، قرارات بحجم الإستعداد لتأديب أردوغان كأزعر يعبث بمعادلات أمن المنطقة وحدود دولها ، ويتسبيح مفاهيم السيادة ويتسخف بهيبة الدول ورموزها وجيوشها وشعوبها .