إمتحان ترامب سوري أمإيراني أم فلسطيني ؟ نقاط على الحروف

ناصر قنديل

 

  • التغيبر حاصل في أميركا ولا نقاش في حدوثه مع حجم الزلزال الثقافي والإجتماعي والسياسي الذي يجتاح المجتمع ونخبه وحزبيه ، والتغيير يجري على إيقاع ترددات الأحداث التي عصفت وتعصف بمكانة أميركا في الخارج في ضوء الحروب التي خاضتها وتخوضها ، والوعود التي رافقتها بإنتصارات حاسمة وخاطفة تتناسب مع الصورة التي رسمتها أميركا لنفسها كدولة عظمى خلال عقود ، وما رافق هذه الحروب من تداعيات في الداخل الأميركي من تراجعات خطيرة في الوضع الإقتصادي ، والضمانات الإجتماعية ، والإهتزازات التي أصابت تماسك النسيج الإجتماعي الهش الذي يربط الأعراق والألوان والديانات والولايات ، التي تتشكل منها الفيسفساء الأميركية .
  • لا يمكن لهذا التغير أن يكون لصالح صعود المشروع الإمبريالي وإمتلاكه فرصا جديدة للحرب والتصعيد ، وفي الوقت نفسه أن يكون تعبيرا عن مأزق وتراجع المهابة الأميركية ، وتضعضع مصادر قوتها ، ومدخلا للضعف والتراجع ، والإنكفاء نحو الداخل ، بلغة عصبية تستعيد كل مفردات الإنقسام وتعصف برياح التفكك في الداخل الأميركي من جهة ، وتثير لغة التعصب نحو الداخل والخارج من جهة أخرى ، فالواجب العلمي في قراءة الظاهرة يقتضي قراءة غير عاطفية ، بعيدة عن القوالب ، والرغبات ، والمخاوف ، والإسقاطات الإيديولوجية ، لحدث بحجم تغيير يعصف بالعاصمة التي صنعت خلال نصف قرن كل حروب العالم .
  • حالة الصعود في المشروع الإمبريالي ليست رغبة ولا تغيير رئاسي من الديمقراطيين إلى الجمهوريين ، بل هي تعبير عن مفصل تاريخي تملك  فيه الإمبريالية فرص فرض مشروع الهيمنة ، مرتكزة لإنكسارات نوعية في موازين القوى السياسية والعسكرية والإقتصادية ، وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية ، وإنهيار الهيمنة البريطانية والفرنسية على المستعمرات ، وصعود أميركا كوريث لها من جهة ، ومقاسمتها للإتحاد السوفياتي عائدات  النصر في الحرب من جهة مقابلة ، وهذا ما حدث مع إنهيار الإتحاد السوفياتي قبل ربع قرن ، وخوض واشنطن حربي الميمنة الأوروبية والميسرة الاسيوية ، الأولى عبر بوابة يوغوسلافيا عسكريا وعبر ذراع الإتحاد الأوروبي سياسيا وخاضها الديمقراطيون بقيادة بيل كلينتون ، والثانية عبر بوابة أفغانستان والعراق عسكريا وعبر ذراع العثمانية والربيع العربي وتناوب تركي سعودي على قيادة حرب عنوانها إسقاط  سوريا ، بإسم الثورات الملونة ، وخاضها شقها العسكري الجمهوريون بقيادة جورج بوش وأتم نصفها الإستخباري والسياسي الديمقراطيون بقيادة باراك أوباما ، وقد إنتهى ربع القرن هذا بالفشل ، بخروج إيران من الحصار وصعود روسيا وصمود سوريا ، والفشل الأميركي في حربي افغانستان والعراق .
  • يصل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية على خلفية نقاش أميركي علني عنوانه الفشل ، من سياق إنهيار الإتحاد الأوروبي ، وتوقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني ، والإعتراف بالصعود الروسي ، والفشل في حربي العراق وأفغانستان ، وصولا إلى الفشل في حرب سوريا ، وفي قلب المعادلة كلها العجز المتمادي في وضع الحلفاء ، من فشل إسرائيل في خوض الحروب ، إلى فشل تركيا في إستنهاض الذاكرة العثمانية بما يكفي لإسقاط سوريا ، وصولا لفشل السعودية في إستنهاض العصبيات المذهبية والرهان على الفتن والحروب الأهلية ، وفشل الإحتياط الذي يمثله تنظيم القاعدة في إحداث التغيير المنشود في وجهة الحرب ، وكلام ترامب لم يكن بعيدا عن محاكمة الحروب الفاشلة كفشل لصانعها في البيت الأبيض ودعوة للخروج منها ، كما لم يكن بعيدا عن إنتقاد المواجهة مع روسيا ، والدعوة للشراكة معها ، وفي سوريا دعوة لمراجعة وتساؤلات عن مبرر التورط في إسقاط نظام حكم ، تظهر التجارب المماثلة في العراق وليبيا أنها لم تجلب الأفضل رغم نجاحها ، فكيف في حال الفشل ، وصولا للدعوة لجعل الحرب على الإرهاب ، الذي يتهم خصومه السياسيين بصناعته وتزخيمه ، عنوان السياسات الأحادي .
  • هذا السياق الواضح للتراجع الأميركي الذي يجلب ترامب للرئاسة ، تقطعه بنظر البعض تصريحات، ومواقف ترامب من التفاهم النووي مع إيران ودعوته لإلغائه ، ومثلها الإمعان في تأكيد العلاقة المميزة مع إسرائيل ، وإغداق المزيد من الوعود عليها بالمال والسلاح وصولا للوعد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة ، ليقول هؤلاء أننا امام حفلة تصعيد يميني متطرف يبشر بالمزيد من التوترات وربما عروض القوة ، بالإستناد إلى الطبيعة التقليدية للسياسات الجمهورية ، وهنا يجب ألا تضيع علينا ثلاثة حقائق ، أولها أن الغبي فقط يضع قياس التقدم للقوة الأميركية وقدرتها على صناعة الحروب بمواقف إداراتها المتعاقبة من درجة دعم إسرائيل ، بل بالمواقف من الحرب التي تعتبرها إسرائيل حرب وجودها ، وهي هنا حؤب سوريا ، وليست نقل السفارة ، ولا تقديم المال والسلاح ، والحقيقة الثانية هي أن الحرب الأميركية الإسرائيلية المشتركة للهيمنة على الشرق الأوسط التي كانت حروب أفغانستان والعراق ولبنان وغزة فصول منها ، تخاض اليوم في سوريا ، وبعدما أسندت تلك الحروب للقوة العسكرية الأميركية والإسرائيلية ومنيت بالفشل ، تسند الحرب الراهنة لإدارة سعودية وجيشها تنظيم القاعدة ، بعدما أسند نصفها الأول لتركيا وقطر وأداتها الأخوان المسلمون وقناة الجزيرة ، والحقيقة الثالثة أن التنافس الإنتخابي كان يدور بوجه منافس هو هيلاري كلينتون وأنه لا يمكن النظر لرهانات حلفاء واشنطن وشركائها في حروبها بالإجماع على كلينتون بإعتباره بلا قيمة في فهم ما يجري وتقييم ما جرى ، وإستقراء ما سيجري ، وبالمعايير الثلاثة تبدو سوريا ساحة تحتزن كل  حروب أميركا وإسرائيل في المنطقة ، ويبدو وصول  ترامب علامة حاسمة على تراجع لغة الحرب .
  • ستبقى العلاقة الأميركية الإيرانية محكومة بثنائية المواجهة والواقعية العقلانية ، فالخلافات إستراتيجية ويصعب التوفيق بينها ، سواء بالموقف من إسرائيل أو بالنظرة للشرق الأوسط كله ، لكن بالحساب الواقعي والعقلاني الذي تفرضه موازين القوى ، لم ين التفاهم على الملف النووي الإيراني معزولا عن سياق الحروب الأميركية كلها ، من مغزى حربي العراق وأفغانستان كطوق حديدي يضرب على إيران ، إلى الرهان على سحق حزب الله في حرب لبنان التي خاضتها إسرائيل ، كمدخل لشرق أوسط جديد تضعف فيه إيران وسوريا ، وتهون إدارته ، وصولا إلى أن الحرب على سوريا وفيها هي ساحة الحسم الراهنة لتوازنات العلاقة الأميركية الإيرانية ، وليس مستقبل الملف النووي الذي جاء التفاهم حوله حصيلة مخاض جعل التفاهم ممرا إلزاميا ، بعد صرف النظر عن خيار حرب بدت مستحيلة منذ نهاية عهد جورج  بوش وطيلة عهد باراك أوباما ، ففي سوريا وحدها يتقرر حجم الإعتراف والإنكارالأميركيين لمكانة جديدة لإيران في الشرق الأوسط الجديد المخالف للتمنيات الأميركية .
  • إمتحان ترامب سوري وليس إيراني ولا فلسطيني ، لا بل إن إمتحان ترامب الإيراني والفلسطيني سوري ايضا .

2016-11-11 | عدد القراءات 3295