ترامب ونهاية زمن المقاربة التقليدية ! نقاط على الحروف
ناصر قنديل
يرغب العاملون في السياسة والصحافة إمتلاك تقييم مختصر بكلمة جيد أو سيئ لكل فريق مقابل سواء كان شخصا ام حزبا أم حكما لدولة ، فيجمع حاصل المواقف و يضعها في جدول حساب أرباح وخسائر ، ويصل لنتيجة قوامها سهل على التعامل ، جيد أم سيئ ، وهكذا كان دائما يتم البدء بتقييم كل عهد أميركي جديد ، بتبدأ التقييمات بالجيد في الوسط العربي ، بنوايا الرئيس الجديد تحريك العملية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي ، وتذكيره بحل الدولتين ورفضه للإستيطان ، والنخب العربية كما الحكام العرب لا يحبون الإستنتاج أن أميركا لن تقدم على ما يزعج إسرائيل ولو قالت ما يرضي العرب ، ومع الأيام تظهر السياسات الأميركية والخطط الأميركية المبرمجة والتي رصدت لها الإمكانات ، في غير ساحة فلسطين ، فيبدأ التبدل التدريجي إلى التحفظ ، وينتهي بالحكم السلبي بإنتظار الإدارة الجديدة .
منذ نهاية الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفياتي ، لم يبق للأميركيين خصم يبررون به توازنات تحكم سياساتهم وعداوات تجبرهم تحالفات بعض العرب مع السوفييت على سلوكها ، ويجبرهم الصراع العالمي على التمسك بإسرائيل وعدوانها ، فصار التوقع العربي بقرب السعي الأميركي لحل القضية الفلسطينية ، وكسب عواطف الشارعين العربي والإسلامي ، ببضع تنازلات شكلية من غسرائيل تضمن لها أمنها وإذهار إقتصادها ، وتعاون العرب معها في العداء لإيران ، لكن ذلك لم يحدث رغم وجاهة حدوثه ، لأن أميركا لا تضغط على إسرائيل ببساطة ، لكن حدث أن أميركا في نهاية عهد جورج بوش الأب كانت أولويتها تحرير الكويت ، وليس حل القضية الفلسطينية ، وفي عهد بيل كلينتون كانت الأولوية مواصلة حصار العراق ، رغم كل ما بذل من حملات علاقات عامة تحت عنوان التفاوض العربي الإسرائيلي لم ينتج إلا إتفاقات منفردة تريح إسرائيل ولا تحل القضية ، من أوسلو إلى وادي عربة ، وفي عهد جورج بوش الإبن كانت الأولوية إسقاط العراق وإحتلاله ، وفي عهد أوباما الأولوية إسقاط سوريا ، و في كل العهود إستمعوا أيها العرب لما تحبون سماعه حول فلسطين ، لكنكم لن تروا أفعالا إلا لصالح إسرائيل ، ولو في غير ساحة فلسطين ، فحروب إسرائيل الفعلية تدور خارج فلسطين .
مع العهد الأميركي الجديد يحدث تغييران جذريان ، فالعرب نخب وحكام في العموم لم تعد أولويتهم فلسطين ، رغم الكذب الكثير ، الأولوية عند أكثر من النصف هي ذات الأولوية الإسرائيلية ، إسقاط سوريا ، والنصف الثاني المرابط على خط العداء لإسرائيل ومقاومتها ، لم يكن من المراهنين على تغير أميركي بوجه إسرائيل كي ينتظر ، ولا يشك لحظة في أن الأولوية الإسرائيلية هي إسقاط سوريا ، لتكون أولويته صمودها وإنتصارها ، وعلى الضفتين العربيتين لن يجد الرئيس الأميركي المؤيد لإسرائيل والمتعاطف معها ، حاجة لكيفية التعامل مع المزاج السياسي العربي ، فهو ليس مضطرا للتحدث عن كل ما لا يحب ، وبمستطاعه أن يعبر عن دواخله بحرية ، لأن نصف العرب ينتظرون منه أن يختم الكلام بقرار التدخل في سوريا فيغفرون له كل ما قاله عن إسرائيل و إن لم يفعل قالوا أنه سيئ وتذكروا ما قاله في مديح إسرائيل كذريعة لتفسير حكمهم عليه بالسوء ، والنصف الثاني يريد لا يتوقع كلاما مزعجا لإسرائيل ، من أي رئيس أميركي إلا للضحك على العرب والتلاعب بعقولهم ، ويراقب مفعول الحرب التي يخوضها في سوريا بوجه إسرائيل وأميركا ، وهل أدت مفعولها بإجبار الأميركي على الإعتراف بالفشل ؟
مثلما أصاب التغيير المعسكر العربي في تلقي الخطاب الأميركي مع كل عهد جديد ، تغير العهد الأميركي نفسه ، فنحن لسنا أمام منهج فكري سياسي حاكم للخطاب المتماسك ، فالخطاب المتطرف التصعيدي على السود والمسلمين ، والداعم لإسرائيل ، تتمته الطبيعية مزيد من التوغل في الحروب ، والتصعيد ضد روسيا ، لكننا هنا أمام إنفصام في الخطاب إلى نصفين ، نصف جمهوري ينتمي للفاشية البيضاء في زمن الحرب الأهلية الأميركية حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى حرب فيتتنام ، ونصف ديمقراطي عاقل ينتمي لمرحلة ما بعد حرب فييتنام ، حتى يكاد الرئيس الجديد يشبه نسختين ملصقتين من رئيسين ، متناقضي السيرة والمسيرة ، هما دوايت إيزنهاور رجل النصر في الحرب العالمية الثانية ، وريتشارد نيكسون رجل الهزيمة في فيتنام ، إيزنهاور النسخة المنقحة لجورج واشنطن في النظرة البيضاء العنصرية للداخل الأميركي ، والنسخة المتعجرفة في الإنخراط التشاركي مع ند هو جوزف ستالين الرافع لشارة النصر السوفياتية في الحرب العالمية الثانية ، ونيكسون المنخرط من موقع المهزوم مع السوفييت والصين ، بعد حرب فييتنام ، والممانع للإندماج الوطني تحت شعار التدرج ، ليصير دونالد ترامب الممانع ضد الطبيعة والتوازنات الإجتماعية في الداخل ، والمنكفئ تحت شعار التشارك من موقع الند في الخارج .
الأرجح أن تغيب فلسطين عن خطاب ترامب إلا في مناسبات تأكيد التمسك بإسرائيل قوية ، والأرجح أن يحضر ترامب المستفز لمشاعر العرب والمسلمين كل يوم في مقارباته لعناوين داخلية أميركية بخطاب عنصري ، لكن الأرجح أن يتصرف ترامب كمهزوم في الشرق يبحث عن شعار مشرف للخروج بماء وجه وجده بالحرب على داعش ، كسبب للإستدارة من حرب فاشلة ضد سوريا ، وعنوان لتعاون مع روسيا دون إنكسار ، لعلنا نتعلم ما كان دائما صحيحا ، أن لا رئيس أميركي سيئ ولا رئيس أميركي جيد ، فالسياسة الأميركية معادية بالطبيعة ، والمهم مراقبة أفعالها وأنيابها وساحات فعلها ، ولسنا مضطرين أبدا أن نصدر حكم السيئ والجيد ، فالأميركيون عليهم فعل ذلك ، ما يعنينا أن نحدد ما إذا كنا لا نزال في قلب الحرب الضارية أم أن حربنا بدأت تحقق غاياتها ، تماما هذا ما قاله زعيم الثورة الفييتنامية هوشي منة غداة مفاوضات باريس وإعلان بدء الإنسحاب الأميركي من بلاده .