يقع الكثير من الباحثين والمحللين والساسة بقراءة مياومة للأحداث ، ولو توهموا ربطا للأحداث بسياق وقوعها ، وقاموا بتدبيج معادلات مركبة لتفسيرها ، بينما يبقى علم السياسة كأي علم مشروط بالمقارنة بين الظواهر التي تتشابه مكوناتها لتمييز الفوارق وربط التغييرات بها ، بعد إستخلاص قانون يجري إثبات سلامته وسلاسته بإسقاطه على الظواهر العشوائية من نفس النوع وبذات الشروط ، ومن ثم يجري قياسه بإستخلاص الخط البياني الذي يرسم سياق التحولات ، هذا في الفيزياء صحيح بربط تبخر الماء بسخونتها لدرجة معينة ، وبالتالي بإرتفاع الحرارة ، وصولا للحظة الغليان ، كما هو صحيح في الرياضيات بربط تناسب قياس أضلاع المثلث ونسبها لبعضها البعض بحجم الزاوية التي تتشكل بين هذه الأضلاع ، وبعد إسقاط هذه المقارنات على نماذج عشوائية تثبت صحة إستخلاص القانون ، ينجز الباحث الخط البياني الذي يظهر تناسب التبخر مع إرتفاع درجة الحرارة ، أو الخط البياني لإظهار تناسب علاقة أطوال أضلاع المثلث بحجم الزوايا التي تتشكل بين هذه الأضلاع .
في قراءة المشهد السياسي للمنطقة والعالم ، قبل الوقوف أمام لحظة راهنة في سوريا أو اليمن أو لبنان أو العلاقة الروسية الأميركية ، يتوقف البحث العلمي عند قدرته على إستخلاص قانون للظواهر والموازين الحاكمة في هذه المسارح والمخابر والمفاعلات التي تصنع فيها السياسة ، ومن ثم إثبات القانون بإسقاطه على ظواهر عشوائية ، وصولا لرسم خط بياني يتساوق مع الحركة الزمنية للأحداث التي تتشكل منها عناصر الظاهرة الواحدة ، وإذا إتخذنا ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما مدى زمنيا للبحث ، وإعتبرنا بدايتها نقطة بداية ونهايتها القريبة قرب نهاية ، لمرحلة البحث ، سيصير سهلا وعلميا فهم الأحداث الراهنة ، متى صار القانون راسخا وثابتا في قراءة الظواهر ، وسيتيح الخط البياني للباحث توقع نقاط تقدمه اللاحقة ، بقوة المعادلة الحسابية التي تتفوق على المعلومات أحيانا ، في زمن يتم فيه تسويق المعلومات في قلب الحروب النفسية والإعلامية لرسم صور مغايرة للمشهد ودفع الخصوم لإرتكاب أخطاء ، بناء على القراءة الخاطئة ، تعدل في الموازين بتخفيف الخسائر إن لم يكن بزيادة الأرباح .
يبدو المشهد راكدا في عامي 2009 و2010 دوليا وإقليميا ، بعد فشل الرهان على حرب غزة لضرب المقاومة وفشل الرهان على وصول الإصلاحيين للحكم في إيران ، فسقط خيار إخراج إيران من فلسطين وخيار إخراج فلسطين من إيران ، وصارت السياسة الدولية التي تقودها واشنطن منصبة على سياقين ، الأول الإستعداد للإنسحاب العسكري من أفغانستان والعراق في مهلة تنتهي عام 2014 وسقفها نهاية ولاية الرئيس أوباما في مطلع 2017 ، والثاني مساعي تحريك تسوية فلسطينية إسرائيلية وفقا لمبادرة وزيرة الخارجية الميركية آنذاك هيلاري كلينتون ، ونصائحها إسرائيل في مؤتمر الآيباك في ربيع 2010 بما أسمته تنازلات إسرائيلية مؤلمة ستتيح التحالف مع عرب الإعتدال ومحاصرة محور الممانعة والمقاومة ، منعا لمستقبل قاتم ينتظر إسرائيل بعدما فقدت كل مصادر قوتها السكانية التي تمنح الدولة اليهودية مشروعيتها ، والعسكرية التي تتيح حربا خاطفة ونصرا حاسما ، وفي خريف 2010 توجه الرئيس الأميركي إلى قمة فرانكفورت لحلف الأطلسي بعدما نعى أوباما مساعيه للسلام وبشر بقراره بالإنسحابات داعيا حلف الأطلسي لرسم إستراتيجية جامعة لمواجهة مخاطر اللاإستقرار في مسرح عمليات هو الشرق الأوسط .
شهدنا في نهاية العام 2010 ومطلع العام 2011 هبات وإنتفاضات شعبية في تونس ومصر واليمن وليبيا ، سرعان ما تحولت إلى أحداث كبرى سقط فيها رؤساء ، وكان لافتا عدم تدخل الجيوش لحماية الرؤساء من جهة ، ومن جهة مقابلة تقدم صفوف داعمي هذه التحركات الكبرى تحت شعار التغيير والديمقراطية والحريات ، أنظمة الخليج وخصوصا قطر والسعودية ، رغم كون الأنظمة الحاكمة فيها هي الأبعد عن هذه الشعارات ، وعبرت قنوات تملكها دول الخليج عن هذا التوجة بإستنفار وإستثمار غير مسبوقين ، وصولا إلى تحولها إلى قنوات ثورية شعبية نحو الخارج وليس نحو الداخل بالتأكيد ، وتفسر منامات القنوات ، بوصول الأخوان المسلمين إلى الحكم في مصر وتونس برعاية تركية قطرية ، وحرب أطلسية في ليبيا وتغيير سياسي في حضن السعودية في اليمن ، كما كان واضحا حجم الرضا الأميركي عما يجري من بيانات التأييد لما سمي بثورات الياسمين والقرنفل واللوتس وعبرت عنه تصرفات الجيوش الصديقة لواشنطن .
في ربيع العام 2011 إنتقلت العدوى إلى سوريا ، وفي نهاية هذا العام قرر مجلس الجامعة العربية بقيادة سعودية قطرية إخراج سوريا من الجامعة والتوجه إلى مجلس الأمن لإستصدار قرار بالتدخل العسكري فيها على الطريقة الليبية ، ومنع حدوث ذلك لجوء مفاجئ لروسيا والصين لإستخدام الفيتو ، ودارت رحى حرب في سوريا ، تشكل لها حلف حمل إسم اصدقاء سوريا ، ضم مئة وعشرين دولة ، وجند المتطوعون للقتال ضد الجيش السوري وجند الإعلام العالمي لخدمة أغراض هذه الحرب ، بكل قواته الموقلة المكتوبة والمسموعة والمرئية ومعها شبكات التواصل العملاقة ، وفي العام 2012 عام الفيتو المزدوج لمنع الحرب بغطاء أممي قانوني ، بدأ التحضير لحرب حدود تخوضها تركيا ، أو يأتي إليها الأميركيون ومعهم كل الغرب ، وعاد أوباما في نهاية العام بولاية ثانية ، بعدما أنجز عام 2011 سحب قواته من العراق ، ووقع وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيين هيلاري كلينتون وليون بانيتا نهاية العام 2012 ومعهما مدير المخابرات ديفيد بتريوس مشروع قرار التدخل العسكري في سوريا ، ليشهد هذا العام تنحية الثلاثة مع الولاية الجديدة لأوباما ، وتوجه وزير الخارجية الجديد جون كيري بعد نهاية المئة يوم الأولى من ولاية أوباما إلى موسكو للقاء نظيره سيرغي لافروف ، لإعلان نية العمل معا للوصول لحل سياسي في سوريا ، بينما سجل دخول لافت لحزب الله عسكريا في سوريا ليسجل أول إنتصار لافت في معارك مدينة القصير ، مطلع صيف 2013 الذي إنتهى بجلب الأساطيل الأميركية إلى البحر المتوسط وعودتها دون خوض حرب ، والدخول في تسوية سياسية للسلاح الكيميائي السوري ، والدخول بمفاوضات حل سياسي مواز للملف النووي الإيراني ، وتولد نهاية العام 2013 حكومة لبنانية جامعة تسقط الفيتو الذي وضعه حلفاء السعودية وأميركا على المشاركة بحكومة واحدة مع حزب الله ما لم يسحب قواته من سوريا .
شهد العام 2014 مفاوضات مضنية إنتهت في الخريف بتفاهم مبدئي حول الملف النووي الإيراني إستدعى تمديد التفاوض لسبعة شهور ، لكنها شهدت ولادة مفاجئة لمكون جديد لتنظيم القاعدة هو داعش بتدفق من الجانب التركي نحو سوريا والعراق ، بينما شهد اليمن بصورة مفاجئة أيضا دخولا نوعيا للحوثيين إلى العاصمة صنعاء وصولا إلى عدن ، وبصورة مفاجئة أيضا إندلعت أحداث أوكرانيا وسقطت الرئاسة الموالية لموسكو ، لكن روسيا نجحت في ضم منطقة القرم الإستراتيجية إلى سيادتها ، وفي مطلع العام 2015 حاولت إسرائيل تعطيل مسار التفاوض على الملف النووي الإيراني بكسر قواعد الردع ، فقامت بعملية القنيطرة وكان الرد بعملية نوعية في مزارع شبعا تقبلت إسرائيل نتائجها بتثبيت ميزان الردع ، بينما دخلت تركيا شمال سوريا وإستولت تحت غطاء جبهة النصرة على جسر الشغور وإدلب وريفها وريف حلب ، وشنت السعودية حربها على اليمن في الربيع ، بالتزامن مع توقيع إتفاق الإطار للتفاهم على الملف النووي الإيراني ، الذي وقع في صيف 2015 رغم ممانعة تركية إسرائيلية سعودية ، ولكن لعدم كفاية عروض القوة التركية الإسرائيلية السعودية بتغير الموازين وإغراء الأميركيين بتغيير توجههم نحو التوقيع على التفاهم ، وفي خريف العام 2015 كانت روسيا تبدأ تدخلا عسكريا نوعيا في سوريا ، فيما عرف بعاصفة السوخوي ، لتغير قواعد الحرب وتطلق دينامية عسكرية يظهر فيها تفوق سوريا وحلفائها وقدرتهم على بلوغ النصر ، يسجل مع نهاية العام قيام الفريق السعودي الغربي في لبنان بترشيح أحد حلفاء حزب الله النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية بعد فراغ فرضه تمسك حزب الله بترشيح حليفه العماد ميشال عون .
مطلع العام 2016 صدر القرار الأممي 2254 ، ليكرس معادلة سورية قوامها حل سياسي وفقا لقاعدتي عدم التدخل الخارجي في مستقبل الدولة السورية وإعتبارها شأنا سوريا وإعتبار الأولوية للحرب على الإرهاب ، وتلتها المساعي السياسية بالتناوب مع التطورات العسكرية التي سجلت خروجا مذلا لتركيا بعد إسقاطها طائرة روسية وصولا لإعتذارها من موسكو وتأقلمها مع دور أكثر تواضعا ، وفى الخريف تم الإعلان عن تفاهم روسي أميركي حول سوريا ، وعن مبادرة للوزير جون كيري حول اليمن ، وعن مبادرة جديدة للفريق السعودي الغربي في لبنان بقبول ترشيح العماد عون للرئاسة ، وإقتربت الإنتخابات الرئاسية الأميركية ومعها رهان سعودي تركي إسرائيلي معلن على وصول المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون ، لتكون حصيلة الماراتون الرئاسي الأميركي بفوز المرشح دونالد ترامب الذي تميز برفض التورط في الحرب في سوريا والدعوة للتعاون مع موسكو وعدم ممانعة بالتعاون مع الرئيس السوري ، ومشاركته كلينتون سائر السياسات الخارجية خصوصا التمسك بدعم إسرائيل .
هذا السياق وحده يرسم خطا بيانيا عنوانه صعود الدور الروسي وتقدم المكانة الإيرانية ، وتراجع قدرة أميركا على خوض الحروب ، وتفوق محور المقاومة في الميدان ، وإتجاه نحوالتسويات التي تعبر عن هذا السياق ، وإصابة حلفاء واشنطن بالضمور والضعف وبدء الإستسلام للحقائق الجديدة من اليمن إلى سوريا ولبنان .