– خلال مراحل ممتدة لنصف قرن مضى بعد إصابة المشروع القومي العربي بالفشل مع حرب العام 1967 انتشر التنظير للديمقراطية بصفتها نقطة الضعف التي أدّت إلى هزيمة المشروع القومي، فأضافها البعض إلى قضية الاستقلال والتحرير عنوانا للمرحلة وأسماها بالنضال الوطني الديمقراطي بدلاً من مرحلة التحرر الوطني. وذهب بعض آخر إلى جعلها الأولوية التي تتقدم على قضية الاستقلال والتحرر وصولاً إلى ما شهدناه خلال الربيع العربي حيث غاب كل حديث عن الاستقلال الوطني وغاب أكثر كل حديث عن فلسطين وعن الصراع مع «إسرائيل» وكان الشارع العربي مأخوذاً مع النخب العربية بعنوان وحيد هو الديمقراطية.
– بالتوازي صعد مع تراجع المشروع القومي عدد من المشاريع الفكرية التي تحاول وراثته كان أهمها مشروع الإسلام السياسي الذي يشكل الأخوان المسلمون نواته المنظمة الأوسع انتشاراً على الصعيد العربي، لكن ذلك لم يمنع من ظهور مشاريع تستند إلى الأعراق والأتنيات تتحدث عن عنوان هو حقوق الأقليات سواء باعتباره أحد عناوين الديمقراطية أو وصولا للدعوة لإعادة النظر بالكيانات الوطنية القائمة والمطالبة بنشوء كيانات جديدة شهدنا بعض ملامحها في السودان واليمن والعراق.
– كان إضعاف حضور القضية الفلسطينية كقضية مركزية جامعة على المساحتين العربية والإسلامية من النتائج الأهم أو الأهداف الأهم لهذه التحولات. وظهرت مشاريع التطبيع كنتيجة لها مرجعيات تبرير فكرية وثقافية تدين المقاطعة بصفتها من علامات التخلف والعدمية والفشل.
– شكلت الحرب التي عرفتها سورية خلال السنوات التي مضت المجال الحيوي لاختبار كل هذه الموجات الفكرية الجديدة وكشف خلفياتها ومرجعياتها وأهدافها، فظهرت دعوات حقوق الأقليات وهي تنبض في الحضن الأميركي مباشرة وتتقاطع مع «إسرائيل» في العديد من المحطات علناً وظهرت دعوات الديمقراطية الليبرالية برموزها وقياداتها في المنابر الإسرائيلية ظهور الحلفاء الموثوقين ولم يتورّع الإسلام السياسي بقوته الأهم الأخوان المسلمين من إشهار استعداده لتقديم الضمانات لأمن «إسرائيل» وقبل أن ينجلي غبار الحرب الكبرى في سورية بدأ الترويج لصفقة القرن التي تبشر بها الإدارة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية كثمرة لما شهدته دول المنطقة وتبع ذلك إعلان أميركي متلاحق بتثبيت القدس عاصمة لكيان الاحتلال والجولان المحتل كجزء نهائي من هذا الكيان .
– ظهر مشروع المقاومة الذي يفترض أنه من مخلفات اللغة الخشبية التي حملها المشروع القومي ولو بمفردات إسلامية حديثة كان حزب الله وإيران أبرز دعاتها، بصفته القوة الرئيسية المقاتلة في هذه الحرب كشراكة بين عنوانين إسلامي مقاوم وعلماني قومي مقاوم. ونجح الشريكان باستقطاب روسيا كداعم لمشروع حماية الكيانات الوطنية وسيادتها ووحدتها وفرض محور المقاومة معادلاته وانتصاراته مقدماً مفهوم التوافق الوطني على الديمقراطية في كل من لبنان والعراق كما نجح محور المقاومة بتظهير العلاقة السريّة بين تنظيم القاعدة وكل منتجات الإرهاب بكل من «إسرائيل» وأميركا والحكومات العربية السائرة في مشروع تصفية القضية الفلسطينية.
– في الجولة الأخيرة من الحرب التي شنت على سورية تحت شعار الديمقراطية وحقوق الأقليات تعود الحقائق لتفرض نفسها على سطح الأحداث فيصير السؤال الوحيد المطروح هو أمن «إسرائيل» من جهة ومستقبل القضية الفلسطينية والأراضي العربية المحتلة من قبل إسرائيل من جهة مقابلة.
– في نهاية نصف قرن من الخراب الفكري ومحاولات التلاعب بمفهوم الهوية وترتيب الأولويات تعود الحقيقة الساطعة التي حاولوا تغييبها لتحضر بقوة، حقيقة أن الصراع مع «إسرائيل» هو العنصر الحاكم والموجه لكل أوجه الصراع الأخرى في المنطقة، وأن هذا الصراع قادر على أن يكون عابراً للأيديولوجيات والقوميات، فيلتقي على خيار واحد تطبيعي مع إسرائيل إسلاميون وقوميون ويساريون وعلمانيّون ويلتقي بالمقابل على خيار مقاوم إسلاميون ويساريون وقوميون وعلمانيّون.
ناصر قنديل
2019-03-29 | عدد القراءات 2221