– تشغل الانتخابات البلدية التركية الساحة السياسية، خصوصاً لجهة قراءة نتائجها وانعكاساتها على زعامة حزب العدالة والتنمية، اللاعب الرئيسي الذي أضفى لونه السياسي على حجم تركيا ووظف قوتها ومكانتها في خدمة هذا اللون طوال عقدين من الزمن. ويصعب تجاهل نتائج الانتخابات البلدية التي تقرر مصير تمثيل المدن الكبرى، خصوصاً اسطمبول المدينة الأهم في تركيا والتي تعتبر مؤشراً في انتخاباتها البلدية على مستقبل الزعامة التركية، بحيث يُقال رئيس تركيا القادم هو عمدة اسطمبول كما يقال ان رئيس فرنسا القادم هو عمدة باريس، عندما يكون الرئيس المنتخب من غير حزب رئيس الدولة.
– تاريخ زعامة حزب العدالة والتنمية لتركيا بدأ من فوز الرئيس رجب أردوغان برئاسة بلدية اسطمبول، المدينة التي يقطنها خمسة عشر مليون نسمة، والتي تعوّض الفوز شبه الدائم لحزب الشعب الجمهوري المعارض ببلدية أنقرة ومنافسته الشديدة على بلدية أزمير، أما عندما يفوز حزب الشعب الجمهوري بالإضافة لأنقرة وأزمير باسطمبول ومدن أخرى مهمة فهذا يعني عملياً قبل كل شيء أن حزب العدالة والتنمية يفقد زعامة معقله التاريخي، وأن شيئاً ما سلباً قد حفر عميقاَ بينه وبين الأرضية الشعبية التي اعتاد أن يغرف منها ويعوض خسائره في سواها.
– لا يمكن احتساب العامل الاقتصادي سبباً إلا من زاوية أن الحزب الحاكم فقد الركيزة التي كانت تعوّض له بعض خسائره في جذب الناخبين، لأن القدرة على إنعاش الاقتصاد كانت واحدة من ميزات هذا الحزب، من دون أن يكون الحزب المعارض المنافس قد نجح في تقديم رؤية اقتصادية متفوّقة وجاذبة، فغياب التنافس على أساس الرؤى الاقتصادي يعني ان الازمة الاقتصادية تسبّبت بمنافسة متكافئة بين الحزبين أكثر من كون هذه الأزمة تسببت بتراجع شعبية الحزب الحاكم، حيث لعبت عوامل أخرى كان يغطي عليها موقع الحزب الحاكم ومقدرته على تقديم وصفة للنهوض الاقتصادي وبزوالها بات الحزب مكشوفاً لتظهر تأثيرات العوامل الأخرى.
– من المهم ان نعرف ان اسطمبول كمدينة تاريخية تقليدية للإسلاميين قبل ومع حزب اردوغان عندما تمنح تصويتها لحزب علماني فهي تقول بتحوّل كبير في الاصطفاف الفكري السياسي وراء الإسلام السياسي أولاً، وثانياً عندما تفعل ذلك مع حزب العدالة والتنمية فهي تقول ان زمن الاخوان المسلمين في تركيا بدأ بالأفول، وثالثاً عندما تقول المدينة التي كان أردوغان يشكل كشخص زعيمها الأوحد أنها تصوت لصالح نجم صاعد لحزب الشعب الجمهوري ينتمي للتقليد السياسي والمالي والثقافي التركي فهذا يعني أن زعامة أردوغان هي التي أصيبت بتراجع كبير وأن التحوّل يتم لحساب العودة للاصطفافات التقليدية للأتراك.
– يتم هذا التحول على خلفية عاملين كبيرين، الأول فشل الرهانات التي وضعها اردوغان امام الأتراك والتي تنقلت من شعار صفر عداوات من الجيران الى شعار العثمانية الجديدة. وكان عنوان الشعارين من الفشل الى الفشل، وكانت الحرب السورية هي الميزان الذي يقيس عليه الأتراك هذا الفشل. وقد فقد اردوغان وحزبه القدرة على تقديم خطاب بديل جاذب لرسم الموقع الإقليمي لتركيا التي وعدت بالزعامة من اردوغان وحزبه. وعندما يكون الفائز هو حزب الشعب الجمهوري فهذا يعني ان التوجه للتعاون مع الدولة السورية على قاعدة المصالح الوطنية التركية وليس المصالح الحزبية الاخوانية صار هو مضمون التحول السياسي الكبير لدى الأتراك.
– ترافق الفشل الكبير في السياسات والرهانات لاردوغان وحزبه مع تآكل صورة الاسلام السياسي بجناحية، الأخوان المسلمين وجماعة فتح الله غولن، وتكفلت حرب الانتقام التي شنها اردوغان على خصومه الإسلاميين بحرمانه من القاعدة الرئيسية لسكان اسطمبول الذين دفعوا الفاتورة الأكبر للاعتقالات وعمليات التطهير الوظيفي والتي زاد ضحاياها في تركيا عن مئات الآلاف أكثر من ثلثهم من ابناء اسطمبول، وبالتوازي كانت الامتيازات المبالغ بها توزع على نطاق واسع على جماعات الاخوان المسلمين من غير الاتراك، وميدانها اسطمبول بصورة رئيسية، وقد غصت المدينة بالمصريين والسوريين من جماعة الاخوان وتملكوا عقاراتها وحصلوا على تجارتها وصيرفتها وقطاعات الخدمات فيها، بينما السكان الأصليون يعانون تأثيرات الضائقة الاقتصادية وهم المنتمون لقطاع الجار والصناعيين وأصحاب الأملاك التقليديين في المدينة، أما زعماء الحزب المحليون فإما تم إقصاؤهم لحساب جماعة ضيقة تنتمي لعائلة اردوغان ومحاسيبه والتي بدأت تنعم بامتيازات فاضحة وظهرت عليها رغم الازمة الاقتصادية علامات الثراء الفاحش.
– احتاجت تركيا الى عقدين لتختبر كامل وصفة الاخوان المسلمين وسياساتهم ونوعية قيادتهم للمجتمع والدولة، والنتيجة التي جملتها الانتخابات البلدية قد لا تنتهي بسقوط حزب العدالة والتنمية بقدر ما سوف تشكل نقطة العبور الى توازن سياسي حزبي يعتبر الأتراك انه يشكل ضمانتهم ضد اي تغول حزبي، خصوصاً من اردوغان وحزبه، بحيث يبدو الأتراك وخصوصا في اسطمبول قد صوتوا لحساب هذا التعدد ويريدون الحفاظ عليه منعاً لأي تفرّد بعدما ذاقوا مرارة هذا التفرد ودفعوا بسببه اثماناً باهظة.
ناصر قنديل
2019-04-05 | عدد القراءات 2397