– يلتبس الأمر على الكثيرين من الذين لا يعرفون التمييز بين المعارك التي تصنع التاريخ وتلك التي تأتي لإنكار سياق تاريخي يشق طريقه، فيتوهون في الغبار والضباب المنتشرين في ظل قرقعة السلاح، بين المشاهد والكلمات التي تعبر عن تشكيلات الأمم الصاعدة وتلك التي تمثل حروب إنكار الأمم الآفلة، وفقاً لما رسمه إبن خلدون في مقدّمته عن التاريخ، بينما جوهر مهمة الكاتب المؤرخ أن يبرع في تمييز هذه عن تلك وإلا سقط حبره على الورق ليلوّث بياضه بلا جدوى ويلوّث معه عقول القراء.
– في منطقتنا كثير من هذه الالتباسات ولا عذر لها بكون القوة التي هيمنت على العالم لأكثر من نصف قرن تستشعر بزلزال تحت أقدامها وسنن التاريخ تفرض انتظار حروب الإنكار منها دون غفلة عن رصد تراجعاتها في الواقع وارتفاع صخب خطابها وحشد جيوشها، لكن دوماً دون شجاعة الإقدام في لحظة المواجهة على إطلاق النار. ومثل هذه القوة العظمى وكيل أعمالها وحروبها في المنطقة تحت وطأة الارتباك الكبير الذي يرافق التحولات التاريخية والعجز عن التأقلم معها وتقبل قوانينها وسننها وقواعد الاشتباك التي ترسمها.
– البعض الذي تاهت عنه صورة النصر التاريخي في تموز 2006 في حرب لم يقم بشنّها الذين يشقون طريقهم لصناعة التاريخ بل الذين يسعون لتأبيد هيمنتهم، وكان القرار الأميركي شديد الوضوح بسحق المقاومة كشرط لولادة شرق أوسط جديد، كما كانت الحاجة الإسرائيلية للفوز بهذه الحرب ضرورة تاريخية للبقاء الوجودي الآمن. وجاء الفشل المدوّي نصراً تاريخياً أكيداً في رسم اتجاه الحركة التاريخية، ومثله من بعده الحرب على سورية لا تُقاس بمعيار ماذا وأين تقدّمت سورية وهي ركن في مشروع رسم السياق التاريخي الجديد تعرّضت لشنّ حرب إعاقة عن الدور وشطب من المعادلة وشكل إفشال الحرب تتمة تاريخية لما جرى في تموز 2006، ومثلهما ما يجري مع إيران اليوم هجوم بالصخب والضجيج والغبار لنثر التشويش حول حقيقة السياق التاريخي الجديد والفشل هنا هو قمة النصر التاريخي.
– ليست عبثاً العودة إلى نقطة الفصل التي يمثلها وضع المقاومة في لبنان عبر الحركة الإسرائيلية الجديدة في مكابرة على التاريخ لرفض التغييرات المحققة والآتية، ولذلك ترفع المقاومة سقف قواعد الاشتباك. فالردّ على تحويل حرية حركة الطائرات المسيرة من الاستطلاع إلى الأعمال الحربية هو بإغلاق الأجواء أمام هذه الطائرات.
– التاريخ تكتبه الأمم الصاعدة بالنقاط، وبإفشال مشاريع الأمم الآفلة بربح جولة بالضربة القاضية، وفي كل من الحالين نصر تاريخي سيعقبه تدحرج الانتصارات متى كسر خط الدفاع الأمامي. وهذا ما يجري في إدلب ليكمل ما سيجري مع المقاومة وما يجري في اليمن والخليج وفي التفاوض مع إيران.
ناصر قنديل
2019-08-30 | عدد القراءات 2118