التعمية بالشعارات الكبيرة مصدر خطر

ناصر قنديل

– وسط الصخب الذي يتحوّل إلى نوع من المعزوفة الصماء تحت شعار، لا صوت يعلو فوق صوت الثورة، لا بدّ من مناقشة ما يجري بلغة العقل، وإشعال الضوء على الزوايا المظلمة، في توقيت سياسي واجتماعي يلاقي فيه برميل البارود عود الكبريت، ورؤية موقع ما يجري في الساحة السياسية قياساً بما يجري في الحراك الشعبي الذي تحول احتفالات غنائية يوم أمس، وغابت عنه حلقات النقاش التي يُفترض أن تنتشر في أنحاء الساحات، تتداول بالخيارات، وتشكل لجان التنسيق، ليبقى الحراك بلا قيادة وهدف واضح عرضة للتجاذب والتأويل، وربما التوظيف في التوقيت المناسب.

– سياسياً المنطقة في قلب تغييرات كبرى، على إيقاع تراجع أميركي كبير في سورية، فشلت تركيا في ملء الفراغ الناتج عنه، بينما تفوّق محور المقاومة في فرض إرادته. وتحفل الصحف الأميركية وفي مقدمتها الواشنطن بوست بتحذيرات من انتصار كامل لمحور المقاومة إذا بقي حزب الله قوياً في لبنان، والحاجة لفعل شيء يحول دون ذلك من بوابة الأزمة الاقتصادية، كما كتب ديفيد أغناسيوس أهم كتاب الواشنطن بوست وأكثرهم تأثيراً في صنّاع القرار، وعلى إيقاع انتظار تبلور الموقف الأميركي، يتوزّع الأطراف اللبنانيون المناوئون للمقاومة، والمتأثرون بالحسابات الأميركية، فيسارع حزب القوات اللبنانية للاستقالة لإحراج شريكه في الحسابات ذاتها الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي أعلن اللعم ، بورقة إصلاحية مشروطة، ثم برفض ورقة رئيس الحكومة، ثم بمشاركة في اجتماع الحكومة لمناقشتها، والأصل هو الانتظار لعدم الوقوع في فخ وعد أميركي جديد يتسبّب بورطة يقول رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي أنه لا يتحمل المغامرة بتصديقه بلا ضمانات واضحة بالمضي في المواجهة حتى النهاية.

– عنوان المعركة الرئيسية ليس في الحراك. فالحراك ساحة مشتركة للجميع، ساحة فضفاضة يصدق المتحدثون فيها أنهم أسيادها، وهي سيولة قابلة للتوظيف في اتجاهات متعاكسة، مثلها مثل مشاعر الغضب التي دفعت الناس إلى الساحات، ولكن السؤال هو: هل يتلقى المتظاهرون استقالة وزراء القوات اللبنانية في سياقه السياسي لخوض معركة فاصلة مع رئيس الجمهورية، ومن خلفه مع حزب الله، بعد تجريد بعبدا من غطاء الحكومة، عندما يصبح بقاء الرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة أشدّ صعوبة مع وزراء كلهم من قوى الثامن من آذار والتيار الوطني الحر، إذا حسم جنبلاط خروج وزرائه من الحكومة، أم يقرأون كل ذلك ترجمة لضغطهم وشعاراتهم بإسقاط الحكومة والنظام، وبالتالي يصيرون شاؤوا أم ابوا وقود المعركة التي تلي نحو بعبدا، ومن خلفها حزب الله، الذي يدرك معنى شعار إسقاط العهد ومَن يقف وراءه، ولذلك قال أمينه العام السيد حسن نصرالله، لن تتمكنوا من إسقاط العهد، مخاطباً صاحب الشعار الحقيقي وليس من ردّده من المتظاهرين.

– الحراك الذي لا يملك خريطة طريق لتحقيق شعاراته الكبيرة، مثل انتخابات مبكرة وحكومة إنقاذ، لا يقبل الكثير من مؤيديه بين النخب مجرد مناقشتهم في كيف يخدم الحراك مشروع التغيير بفرض قوانين مثل رفع الحصانات ورفع السرية المصرفية، وفرض تشكيل هيئة قضائية مستقلة لمساءلة من تولوا الحكم خلال ثلاثين عاماً. وهي أهم طرق استعادة المال المنهوب ومحاسبة الفاسدين، ويتحدّثون بلغة عمياء من نوع، ياخدهن الجيش عالحبس ويشلّحهن المصاري . هذا الحراك مجرد سيولة غاضبة، قابلة للتوظيف في لحظة خطرة، قد تكون آتية، ما لم ينتبه الذين يستلذون بمجرد تمجيد قدسية حضور الشارع، ولا يبذلون جهداً لمناقشة هادئة لكيفية جعل الحراك سبيلاً نحو تراكم مجدٍ وحقيقي نحو التغيير المنشود، وهم يتحدثون عن انتخابات وفق الدائرة الواحدة والنسبية خارج القيد الطائفي، ويرفضون أن يكون الضغط لقانون هذا مضمونه مطلباً ملحاً ينتزع من مجلس النواب الذي يبعد عن مكان الحشود أمتاراً قليلاً، ويكتفون بالهتاف كلهن يعني كلهن ، والخطر ليس فقط في ضياع فرصة تغيير، بل بتحوّلها لفتح الباب لتغيير معاكس.

2019-10-21 | عدد القراءات 21852